التصنيفات: إعلام

المونتاج صنع في مصنع ازنيشتاين

إذا كان جريفث قد بدأ الخطوة الأولى على طريق توظيف المونتاج كوسيلة تعبيرية، فإن أيزنشتين قد جعل من فن المونتاج لغة سينمائية جديدة ” ميخائيل روم”.

كان دخول أيزنشتين إلى السينما مثله تماماً مثل “ميليه” و “جريفث” عن طريق المسرح، ولكن بينما رأى ميليه فى “السينماتوغراف” وسيلة تمكنه من توسيع مجال استعراضاته السحرية على مسرح هودينى، فإن أيزنشتين كان أقرب الى رؤية جريفث لها حيث رأى فيها وسيلة تعبير تذهب إلى مدى أبعد كثيراَ مما يمكن للمسرح أن يعبر عنه .
وقد ظهرت بوادر إدراكه للفارق بين الاثنين منذ كان يعمل بالمسرح وقبل التحول إلى العمل بالسينما . فقد قام بإخراج بضع مسرحيات أحدث فيها تحولاَ كلياَ عن الشكل المسرحى المعتاد , ذلك عبر مزجها بعناصر من السيرك وعناصر سينمائية أى أنه اقتبس من السينما , فكرة ” المونتاج ” لكى يمزج عدداَ من العناصر المتميزة فى حيز واحد .
ثم تنبه أيزنشتين للإمكانيات الجمالية للمونتاج لدى رؤيته لفيلم جريفث ” التعصب ” وأدرك أن السينما تتيح من الإمكانيات ما يفوق بكثير تلك المجالات الصغيرة التى يضمنها إطار المسرح . ثم تبين له من دراسته لعمل جريفث , أن الإختيار الدقيق . وترتيب اللقطات المتتالية على الشاشة يمكن أن يصنع صوراَ ذات قوة كبيرة . . قوة عاطفية وأيديولوجية وفنية . ولكنه تبنى لنفسه تصوراَ يتجاوز هذا النوع من البناء المونتاجى . فقد رأى أن جريفث لم يحاول تشكيل المضمون عن طريق المقابلة فى ترتيب اللقطات الذى اعتبره أمراَ جوهرياَ , وقد عبر عن ذلك بقوله : إن جريفث يظل دائماَ على مستوى التمثيل والموضوعية دون أن يحاول , فى أى مجال , استخدام المقابلة أثناء الجمع بين اللقطات لتشكيل المضمون والصورة .
أى أن أيزنشتين رأى فى إمكانيات ” المونتاج ” ما يفوق مجرد كونه وسيلة لربط مشاهد معينة , مثل العودة إلى الماضى أو القطع لتحقيق تقابل زمنى . بل إنه من الممكن لصق أجزاء من فيلم ما , فينتج عن ذلك مشاهد لا تختلف فحسب من ناحيتى الزمان والمكان, وإنما من ناحية المضمون أيضاَ .

 

بهذا المفهوم توصل أيزنشتين إلى نظريته الخاصة فى ” المونتاج ” والتى قدم لها بقوله : فى مقابل عمليات التوازى والتبادل فى ترتيب اللقطات القريبة فى الأفلام الأمريكية , فإننا نقدم النقيض , وذلك بإدماجها معاَ للحصول على ما يمكن تسميته بمونتاج الاستعارة . ففى مشهد من فيلم ” أكتوبر ” 1928 الذى يتناول المراحل الأولى من ثورة عام 1917 نرى تمثالاَ للقيصر يتم تحطيمه . وبعدئذ عندما يسيطر القائد كيرينسكى , يصف أيزنشتين هذه النكسة عن طريق الاستعارة فيرينا مشهد للتمثال تتم إعادة بنائه بحركة معكوسة أمام أعيننا وكأننا نرى العودة المؤقتة للقيصرية .

 

شاهد هذا الفيديو
https://www.youtube.com/watch?v=L-10eCXzqdQ&feature=related

 

 

وقد ركب ” أيزنشتين ” المشهد من سلسلة من اللقطات التى صورت كل منها على حدة , وملأ الشاشة بصور فى منتهى القوة , قوة مستمدة من الربط الغريزي فى ذهن المتفرج بين مضمون اللقطة وبين ما يراه فى اللقطة التالية . فنرى لقطة قريبة لجندي قوزاقى شاهراَ بندقيته , بينما ظهرت فى اللقطة التالية امرأة تحطمت نظارتها وغمر الدم وجهها , أو نرى لقطة لطابور من القوزاق يطلقون الرصاص , تليها لقطة لامرأة شابة تضم يديها إلى صدرها والدم ينزف بغزارة عليها , ثم لقطة لعربة بها طفل رضيع تندفع بسرعة فوق درجات السلم , ولقطة أخرى لطالب يقف على درجات السلم وفى عينيه نظرات رعب شديدة , بينما يستدير رأسه ببطء وهو يتابع انحدار العربة . إن جاذبية الصدمة هي التى تربط بين هذه اللقطات , ثم تجعلنا نشارك الطالب فى شعوره بالرعب

 

ويعتبر مشهد سلالم الأوديسا , أيضاَ , من أهم المشاهد التى طبق فيها أيزنشتين نظرياته فى المونتاج بجانب نظرياته عن المونتاج الفكرى Intellectual Montage . فهناك نظريته عن المونتاج القياسي Metric Montage وهى عن طول اللقطات فى علاقتها ببعضها البعض . فتقصير زمن كل منها على الشاشة بصرف النظر عن محتواها يختصر الوقت الذى يستغرقه المتفرج فى استيعاب معلومات كل منها على انفراد . وهو ما يزيد من التوتر الناتج عن المشهد . فجميع اللقطات القريبة القصيرة التى يحتويها المشهد جعلت منه أكثر المشاهد كثافة وتوتراَ . أما نظرية المونتاج الإيقاعى Rhythmatic Montage فيتم فيها الحصول على التوتر الشكلى بزيادة السرعة عن طريق تقصير اللقطات وتكرراها ثم زيادة تقصيرها , ليس وفقاَ للخطة الأساسية فحسب , وأنما بالخروج كذلك عن هذه الخطة نفسها عن طريق إدخال لقطات أشد حدة وفى إيقاع يسهل تمييزه. فإيقاع الطبل المنتظم يشذ فى كل مرة عن إيقاع أقدام الجنود وهم يهبطون الدرج ولا يتفق معها زمنياَ , كما أن كل لقطة من لقطات الجنود تظهر مختلفة فى نهايتها . ثم يبلغ التوتر أقصاه بالتحول من إيقاع الأقدام الهابطة إلى إيقاع آخر , إلى نوع آخر من حركة الهبوط , وهو هبوط عربة الطفل تتأرجح على السلالم , والذى يعمل بمثابة عنصر إسراع مباشر لخطوات الجنود إلى الأمام.وهكذا تتحول خطوات الهبوط إلى اندفاع فى الهبوط

 


 

شارك
نشر المقال:
mtahhan