التصنيفات: غير مصنف

هذا ما جناه أبي عليّ .. وما جنيتُ على أحد

هذا ما جناه أبي عليّ .. وما جنيتُ على أحد

لم يكن نهار يوم السابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 363 هـ عادياً .. فلـقد حمل في جنباته بشـرى لـ عبدالله بن سليمان ولكل أحياء معرّة النعمان .. بشـرى بولادة شاعر عظيم وفيلسوف رائع لم تشهد الحياة مثله .. حملت البشرى للوالد ففرح فرحاً كبيراً وقرر تسميته أحمد .

ولد أحمد ابن عبدالله أبو العلاء المعري التنوخي في معرّة النعمان في سوريا بين حماه وحلب ، وقد سميّت بذلك نسبة إلى النعمان بن بشير الأنصاري الذي كان والياً على حمص وقنسرين .

عاش أبو العلاء المعريّ سنوات من عمره هانئة .. حتى عام 376 عندما أصيب بمرض الجدري الذي سرق منه عينه اليسرى ، وغشي عينه اليمنى بياض حتى قيل أنه لم يعد يرّ من الألوان سوى الأحمـر . وكان عمره وقتذاك 3 سنوات . وفي سنته السادسة أو بداية السابعة ذهب بصـره كله .. وقد كان أبو العلاء يحمد الله على ذلك ولم يجزع منه قط .. حيث كان يقول :

قالوا العمى منظر قبيح *** قلت بفقدانكم يهون

والله ما في الوجود شيء *** تأسى على فقده العيون

تلقى أبو العلاء الكثير من العلم والأدب .. فقد أخذ علمه الأول في موطنه المعرّة ، وتعلم مباديء النحو واللغة عن والده ، ثم رحل إلى حلب يطلب المزيد ثم لـبغداد وبقي فيها سنة وأكثر يطلّع على ما وجده في خزائن الكتب في بغداد ، فـ تعلم الكثير وقرأ الكثيـر ، ولم يثنه عماه عن ذلك ، بل كان يستزيد ويستزيد ..

وقد كان أبو العلاء ذكياً ذكاءاً مدحه كثير وتعجّب منه أكثر ، ومما يروى في ذكائه وقوة حفظه أن جاراً له سماناً كان بينه وبين رجل من أهل المعرة معاملة، فجاءه ذلك الرجل، ودفع إليه السمان رقاعاً كتبها إليه يستدعي فيها حوائج له، وكان أبو العلاء في غرفة مشرفة عليهما، فسمع أبو العلاء محاسبة السمان له، وأعاد الرجل الرقاع إلى السمان، ومضى على ذلك أيام، فسمع أبو العلاء ذلك السمان وهو يتأوه ويتململ، فسأله عن حاله فقال: كنت حاسبت فلاناً برقاع كانت له عندي، وقد عدمتها، ولا يحضرني حسابه؛ فقال لا عليك، تعال إليّ، فأنا أحفظ حسابكما، وجعل يملي عليه معاملته وهو يكتبها إلى أن فرغ وقام، فلم يمض إلا أيام يسيرة حتى وجد السمان الرقاع وقد جذبتها الفأر إلى زاوية في الحانوت، فقابل بها ما أملاه أبو العلاء فلم يخطئ بحرف واحد.

وكان صغيراً عندما حضر إليه جماعة من أكابر حلب الذين سمعوا بفرط ذكائه، وكان يلعب مع الصبيان، فقال لهم: هل لكم في المقافاة بالشعر؟ .. فقالوا: نعم. فجعل كل واحد منهم ينشد بيتاً وهو ينشد على قافيته، حتى فرغ حفظهم وتغلب عليهم .

عندما رجع أبو العلاء المعريّ من بغداد إلى بلده في معرّة النعمان ، ترك الناس وانشغل بالعلم ولزم بيته ولم يغادره ، وقد سمى نفسه ( رهين المحبسين ) أي رهين العمى والبيت .. ولكنه في بعض أبياته كان يصف نفسه بـ رهين المحابيس الثلاثة :

أَراني في الثَلاثَةِ مِن سُجوني *** فَلا تَسأَل عَنِ الخَبَرِ النَبيثِ

لِفَقدِيَ ناظِري وَلُزومِ بَيتي *** وَكَونِ النَفسِ في الجَسَدِ الخَبيثِ

ولم يعرف شاعرٌ قال الشعر وهو لا يزال طفلاً صغيراً سوى أبي العلاء فلقد قال الشعر وهو في الحادية عشر من عمره ، ولأبي العلاء المعرّي العديد من المؤلفات منها : الفصول والغايات ، سيف الخطبة ، تاج الحرة ، رسالة الغفران ، سقط الزند .. وأخرى غيرها .

من روائـع شعـره :

غيـرُ مجدٍ في ملّتي واعتقــادي *** نوحُ باكٍ ولا ترنّــم شادي

وشبيـهٌ صوتُ النعيّ إذا قيس *** بصـوت البشيـر في كل نادِ

صاحِ هذي قبورنا تملأ الرحـب *** فأيـن القبـور من عهـد عادِ

ربّ لحـد قـد صـار لحـداً مـراراً *** ضـاحكٍ من تــزاحـم الأضـداد

ودفيــنٌ على بقـــايــأ دفيــنٍ *** في طويـل الأزمــان والآبـادِ

خـفف الوطء ، مـا أظن أديــم *** الأرض إلا من هـذه الأجســادِ

تعـبٌ كلها الحيــاةُ فمـا أعجـبُ *** إلا من راغــبٍ في ازديـــادِ

شارك
نشر المقال:
رحمة الراوي