التصنيفات: إعلام

الإعلام الصحفي ما بين المفهوم والواقع- رؤية المفكر العربي د. عزمي بشارة

يتطرق المفكر العربي د. عزمي بشارة في مقالٍ بعنوان “أفكار عن الإعلام والإصلاح”*, إلى مفهوم الإعلام الصحفي وتطبيقه. إن الإعلام الصحفي “يفترض وجود حيز عام يجري فيه تناقل معلومة ذات معنى للعموم, ويفترض نقل المعلومة لذات يهمه ويهمها أن تعلم”, وإنه لمن المهم ومن الضروري التعرف على مفهوم الإعلام الصحفي, وذلك حتى نفهم خصوصية الإعلام وتميزه عن باقي النشاطات الاجتماعية المختلفة. هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى فإن التعرف على مفهوم الإعلام الصحافي يضع أمام الصحفي المثال الذي يجب أن يحتذي به وأن يطمح إليه.

وإن كان من الطبيعي أن مفهومنا للإعلام الصحفي هو ما يحدد الواقع الإعلامي إلا أن المفهوم ذاته ليس ثابتاً, بل يتغير ويتطور بموجب الواقع , ويطور بالتالي فهمه لذاته وبذلك يؤثر على فهمنا له. ولكن جوهر المفهوم يبقى ثابتاً ولا يتغير وهو يعتمد على العناصر التالية: تقصي الحقائق, نقل الخبر وتوسيع حيز حرية التفكير والرأي. إن هذه العناصر هي أساس الإعلام الصحفي ولا تتغير غير أنها تتخذ أشكالاً مختلفة.

إن فهمنا للإعلام الصحفي كحيز عام والذي من جهة لا يخضع لتحديدات القوة والسيطرة, ومن جهة أخرى هو خارج نطاق النشاط الاقتصادي الذي يهدف للربح, يحوي الكثير من التناقضات, حيث أن هذان الشرطان لا يمكن تحقيقهم إلا في مستوى المفهوم للإعلام الصحفي, فالإعلام يعمل ضمن نطاق الدولة, لذلك فحتماً هو يخضع لنوع من السيطرة, وهو أيضاً يعمل في إطار النشاط السياسي وليس مفصولاً عن علاقات الملكية.

من الناحية الاقتصادية فإن نقل المعلومة هو أمر مربح مادياً ويمكن القول أن المواطن يدفع ثمن المعلومة, لهذا فإن التعامل مع الإعلام كخدمة اجتماعية كالعلاج الطبي والتعليم, يؤدي إلى اعتبار المعلومة الخاطئة بمثابة علاج خاطئ أو تعليم غير هادف, ويصبح من الواجب الاقتصادي تقديم معلومة صحيحة. ولكن إذا كان ذلك غير مربح, يتحول الإعلام لنشاط غير مجدي, وهنا تنتج الحاجة في خلق المعرفة والطلب أو الاستثمار في مجال آخر, ولكن حتماً فإن مفهوم الإعلام لا يبيح الكذب والخداع كوسيلة لجني الأرباح. في حال أن الإعلام اختار خداع الجمهور فهذا ينتج نهجاً جديداً يهدف إلى إنشاء ذوقاً جماهيرياً جديداً, ذوقاً يطلب بنفسه الخداع وينشد الكذب, الإثارة والسطحية.

إذاً فالإعلام الصحفي في المفهوم ينشد إعلاماً مستقلاً غير خاضع لعلاقات القوة ولا يعتمد الكذب أسلوباً للربح, ولكنه في الواقع فإنه يختلف عن المفهوم وهذا صحيح حتى في أكثر الدول الديمقراطية, ولكن بالطبع فإن حجم الفجوة بين المفهوم والواقع يختلف باختلاف الظرف والمكان, فهو يكبر في الدول الاستبدادية, إلى حد التناقض في حال أن وظيفة الإعلام أصبحت حجب المعلومة, وهو يتقلص دون أن يختفي في الدول الديمقراطية.

لكي يقوم الإعلام الصحفي بمهمته كما ينبغي فإنه يحتاج إلى بيئة تتوفر فيها ثلاثة شروط: حرية نسبية, سيادة القانون واستقلال القضاء, ولكن السؤال هو ما هي مهمة الإعلام الصحفي؟؟ إن مهمة الإعلام الصحفي هي مراقبة مجريات الأحداث والكشف عن الحقائق ونشرها, والإعلام الصحفي في حرصه على نقل المعلومة, يعتبر من أهم أدوات الرقابة في المجتمع, لذلك فإن نقل الحقائق أو السعي لنقل الحقائق يعتبر من مميزات الإعلام الصحفي وذلك قبل أن تنتج أشكال التعبير الصحفي عن الرأي, وإن هذا السعي لتقصي الحقائق هو ما تخشاه الأنظمة الشمولية والتي لديها دائماً ما تود حجبه عن الجمهور, فهي تعتمد على إخفاء الحقائق بقدر ما تعتمد على غسل الأدمغة.

إن من أهم الأساسات في مفهوم الإعلام الصحفي هو أن الحقيقة ليست نسبية, بل هي “مطلقة ما لم تنشد”, وهي “نسبية بعد أن تدرك”, بمعنى أنه من واجب الصحفي أن يسعى وراء الحقيقة, ومن ثم يستخدمها في السياق المطلوب, عندها فقط يمكن الحديث عن نسبيَّتها, وإن كان من شأنها أن تلحق الضرر بالأمن القومي فإن النقاش حول نشرها أو عدمه أو حتى الاكتفاء بنشر جزء منها هو نقاش وطني جائز مع السلطة. إن السعي وراء الحقائق يجب أن يتم باستخدام الوسائل المطلوبة وبشكل عقلاني وصادق, فإذا لم يتم التوصل إلى الحقائق المنشودة, فإنه حتماً سيتم التوصل إلى حقائق أخرى في خضم البحث, وعن هذه الحائق الأخرى يجب الكشف أيضاً.

إن من أهم أسس الإعلام الصحفي هو أن يتيح حيزاً لحرية النقد والحوار, وذلك بهدف الحد من تأثير الآراء المسبقة والإشاعات وتدخل السلطة. هذا على مستوى المفهوم, أما في الواقع فإنه من شأنه أن يصنع الشائعات والأفكار المسبقة. ولكننا في الحقيقة لسنا بحاجة للإطلاع على واقع الإعلام الصحفي حتى نلمس التناقض القائم بين الإعلام وتطبيقه, حيث أن التناقض قائم حتى في المفهوم نفسه, فمثلاً مفهوم الإعلام الصحفي يشمل أدوات الإنتاج من طباعة, بث, تمويل, عاملين ومشغلين, مما يجعل الإعلام سلعة يجري تداولها. هذه الأمور هي أبعاد للمفهوم نفسه وليست ناتجة عن إسقاطات الواقع.

إن المفهوم الإعلامي يكشف عن توترات بين أمور أخرى عديدة, على سبيل المثال التوتر القائم المصلحة وضيق زاوية نظر الإعلامي وبين سعيه إلى كشف الحقيقة. مثال آخر هو التوتر القائم بين مصدر التمويل وطبيعة الإنتاج, فعلى مستوى المفهوم, هنالك توتر ناتج عن أنماط ملكية وسيلة الإعلام الصحفي, فإن الملكية الخاصة لوسيلة الإعلام تؤدي بالإعلام للخضوع للأحداث والمصالح الخاصة. وفي حال أن الملكية كانت للدولة فإنها ستسعى بذلك لعدم نشوء حيز عام الذي من المفترض أن ينشئه الإعلام. ولذلك هنالك تمييز بين الملكية وبين التحرير في وسائل الإعلام, وهنالك قوانين تهدف إلى تنظيم عمل هذه الوسائل. ولقد زاد التطور التكنولوجي من حدة التناقض بين علاقة الملكية والإنتاج والمفهوم الإعلامي, حيث نشأت ملكيات كثيرة لوسائل الإعلام, وازداد عدد المتلقين في عصر الإعلام الجماهيري وتوسعت السوق الإعلامية.

أما في واقع المفهوم فإن تحديد مفهومنا للإعلام يكشف لنا البعد القائم ما بين الواقع والمفهوم, وهذا البعد يتفاوت بين حالة وأخرى,  وهنالك عدة حالات يتعارض فيها الإعلام مع مفهومه, عل سبيل المثال: في حال أن الإعلام تحول إلى أداة بيد السلطة لتستخدمها لتبرير أفعالها والتعتيم حول ما ليس في مصلحتها أن يكشف, فتحجب النقد والآراء المعارضة. أيضاً إذا أصبح الإعلام مجرد وسيلة للتسلية والترفيه, وبالرغم من أن التسلية والترفيه أصبحا ضرورة من ضروريات الحياة الحديثة, إلا أن هذا ليس بمهمة الإعلام الصحفي, على الأقل على مستوى المفهوم, ولهذا فلا يجب أن يكون الهدف من تقديم الخبر هو التسلية.

وهكذا نرى بأنه في واقع الإعلام الصحفي يوجد العديد من التناقضات وهذه التناقضات تضع الإعلام الصحفي في العديد من الصراعات, يذكر منها:

  1. الصراع مع ملكية وسائل الإعلام
  2. الصراع مع تنافسية السوق الإعلامية وإدخال عناصر التسلية والإثارة إلى المشهد الإعلامي بهدف التشويق والتسويق, ويأتـي هذا على حساب النوع والمستوى.
  3. الصراع مع الميل إلى مسايرة الآراء المسبقة لفرض الرواج
  4. الصراع مع رقابة الدولة, رقابة المجتمع والرقابة الذاتية
  5. الصراع مع الأيديولوجيات المختلفة التي تبرر أحياناً التكتم عن حقائق معينة. وبالرغم من أنه من الممكن أن تكون الأيديولوجية مفيدة في خلق الجدل المطلوب في الحيز الإعلامي, ولكنها قد تكون مضرة إذا أثرت على التحقيق الصحفي بشكل متعمد.
  6. الصراع مع الميل إلى نشر المعلومة غير الموثوق بها دون التأكد من صحتها.

ومع اتساع الفجوة بين النظرية والممارسة, وبين المفهوم والتطبيق فإن ما يحدد مدى اقتراب الواقع الإعلامي من مفهومه هو الموضوعية والحرية التي تسمح بالنقد, تبادل الآراء والإبداع.

 

 

*المقال نشر في مجلة الآداب في العدد 6-7-8-2010.

 

شارك
نشر المقال:
سجود سليمان