التصنيفات: غير مصنف

لماذا يتبرع الأشخاص بأجسادهم بعد مماتهم

ما أن تدخل إلى غرفة العمليات وتجوب قليلاً بنظرك فيها حتى تلاحظ وجود أيدي بشرية مقطعة وموضوعة على قطعة من القماش الأبيض الماص الملطخ بالدم فوق طاولة عمليات المصنوعة من ستينلس ستيل، ووجود عدد من الجراحين المتدربين الذين يرتدون عباءات زرقاء وقفازات طبية يحيطون بها ويعملون على تشريح كل يد على حدة بإشراف أطباء مشرفين، هذا هو أسلوب تعليم التشريح المتبع حالياً لطلاب الطب في معظم أنحاء العالم، ولكن كيف كان الحال سابقاً في هذا المجال؟

يشير الطبيب (فيشي ماهاديفان)، وهو أستاذ التشريح في الكلية الملكية للجراحين في لندن، أنه عندما كان جراحاً متدرباً منذ أكثر من 34 عاماً، كانت الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يتعلم فيها المتدرب هي من خلال رؤية كبير الأطباء وهو يقوم بإجراء عملية جراحية لأحد المرضى، ومساعدته مراراً وتكراراً خلال تلك العمليات، وبعد ذلك إذا كان الطبيب سعيداً بعمله سيسمح له بإجراء العملية الأساسية وسيقوم هو بمساعدته.

لم يبدأ استخدام الجثث البشرية لتدريب الجراحين المبتدئين بشكل قانوني حتى عام 2004، حيث يتم تجميد هذه الجثث حتى درجة حرارة أقل من -20oC ومن ثم يتم تذويب الجثة قبل الاستخدام مما يجعل الجلد والعضلات تعود إلى حالتها السابقة والمماثلة للحم الحي، وذلك على خلاف الجثث التي تستخدم في كلية الطب والتي يتم تحنيطها مما يؤدي إلى تصلب الأنسجة وتغيير نسيجها، وهذا يجعلها غير ذات جدوى لصنع الشقوق والغرز فيها.

بعد الانتهاء من العمل على الجثة، يتم إرجاع كل عضو إلى مكانه، ويتم بعد ذلك دفنها أو إحراقها وإعادة الرماد إلى عائلة المتبرع إن أرادوا ذلك، وتبعاً لـ(ماهاديفان) فإن هذه الطريقة تعتبر أكثر طرق المحاكاة واقعية، وهذا بالطبع لن يكون ممكناً لولا سخاء بعض الأشخاص الذين يتبرعون بأجسادهم لا لشيء سوى لخدمة البشرية.

هناك عشرات آلاف الأشخاص الذين يقررون وهب أجسامهم للعلم، وحوالي 600 شخص يفعلون ذلك في كل عام، حتى أن بعضهم يقررون ترك أدمغتهم لإجراء البحوث العلمية عليها، فمثلاً العديد من مرضى الباركنسون يتركون أدمغتهم بعد وفاتهم لاستخدامها في مئات التجارب وتكوين فكرة أفضل عن حالة الدماغ التنكسية.

يشير (إد سايكس)، وهو محاور علمي يبلغ من العمر 34 عاماً، بأنه يخطط لترك دماغه أو جسمه للبحوث العلمية،لأنه لا يعتبر جسمه ذو قيمة كبيرة، فبمجرد أن يموت سيصبح إما طعاماً للديدان أو سيتم حرقه بدون فائدة، لذلك فمن المنطقي أكثر أن يحصل العلم على بعض الفائدة منه.

تم تنظيم التبرع بالجثث في كل من انكلترا وويلز بموجب قانون الأنسجة البشرية لعام 2004، وكان ذلك استجابة سياسية لفضيحة مستشفى (ألدر هاي) في أواخر تسعينيات القرن الماضي، حيث اتضح أن المستشفيات تقوم بتخزين أعضاء مأخوذة من الأطفال دون الحصول على الموافقة على ذلك، ولذلك تم تشريع قانون الأنسجة البشرية لتنظيم وترخيص إزالة وتخزين واستخدام أجزاء الجسم وأعضائه، كما تمتلك اسكتلندا أيضاً تشريعات منفصلة، لكنها متشابهة.

يشير (كريس بيركت)، من هيئة الأنسجة البشرية، بأن هذا التشريع يمكن تلخيصه بالحصول على الموافقة الخطية، وهذا ما يميزه عن القانون الذي سبقه الذي لم يقدم الضمانات الكافية للجمهور عن الكيفية التي يتم خلالها أخذ الأنسجة وتخزينها لاستخدامها في المستقبل، ففي ظل القانون السابق كانت الموافقة على ترك الجثة يمكن إعطاؤها بشكل شفوي، وهذا يترك الكثير من الارتباك والخوف من أن يتم التعامل مع الجثة بشكل سيء، ولكن الآن يطلب من المانحين المحتملين التوقيع على استمارة موافقة تحدد المجالات التي سيتم استخدام الجثة فيها والوقت الذي يُسمح للجهة التي تُمنح لها الجثة بالاحتفاظ بها، والجدير بالذكر أن القانون لا يسمح باستخدام الجثث في المملكة المتحدة في اختبارات السلامة على الطرق كما هو الحال في الولايات المتحدة، وليس هناك أي مزارع للجثث، حيث تترك الجثث فيها لتتحلل لتسليط الضوء على علوم الطب الشرعي، كما هو الحال أيضاً في الولايات المتحدة.

إن قانون الأنسجة البشرية قد يكون مرهقاً للجامعات، فبموجبه يجب على كل جثة موجودة في مشرحة الكلية أن يتم تخزينها واستخدامها بطريقة يمكن تحديدها، حيث يتم وضع بطاقة تعريف على كل جزء من الجسم، كما يجب أن يعاد أي جزء من الجسم إلى مكانه أو إلى صندوق من البلاستيك يكون موضوعاً إلى جانب الجسم بعد الانتهاء من الاستخدام.

هذا النوع من الاحترام في التعامل مع الجثث لم يكن موجوداً في الأيام الأولى للتشريح الطبي الحديث، فعندما نشر (أندرياس فيزاليوس) موسوعته التي تتضمن سبعة كتب تحمل اسم (De Humani Corporis Fabrica) وتتحدث عن بنية جسم الإنسان في عام 1543، تدافعت الحشود لرؤية جثة أحد المجرمين وهي يتم تقطيعها في مكان عام، ولكن هذا التدافع لم يكن في معظمه من قبل أشخاص يسعون لنيل المعرفة، إنما كان في أغلبه لرؤية العقاب الذي يتم إنزاله بذلك المجرم.

في انكلترا، ارتبط التشريح في أذهان العامة مع العار وتدنيس الروح لدرجة أن الجرائم الكبيرة أصبح يعاقب عليها بأن يتم تشريح جسم المجرم، ولكن مع ازدهار دروس التشريح، زادت الحاجة للحصول على المزيد من الجثث، وهذا بدوره أدى إلى زيادة سرقة المقابر ما بين القرنين الثامن والتاسع عشر، وحتى أن بعض الأشخاص ذهب إلى أبعد من ذلك وبدأ يقوم بارتكاب جرائم القتل لتوفير الجثث المطلوبة، وفي عام 1832 أصدرت الولايات المتحدة أول قانون للتشريح في استجابة منها لضغوط الأطباء، وأصبح بإمكان الأشخاص للمرة الأولى التبرع من الناحية القانونية بأجسامهم للعلوم الطبية.

تبعاً للدكتورة (ميشيل سبير) نائب قسم التشريح السريري في جامعة كامبردج، ليس هناك نموذج واحد للمتبرعين، ولكن ما يجمعهم هو السخاء، والجدير بالذكر أنه عادة ما يتم أخذ الأعضاء التي سيتم استخدامها أو دراستها من المتبرع بعد يومين فقط من وفاته كحد أقصى، ومن ثم يتم إعادة إغلاق الجرح بطريقة لا يكون فيها واضح إذا ما تم وضع الجثة في تابوت مفتوح، ولكن في الحقيقة يمكن القول أن التبرع بالجسم هو أكثر قسوة على العائلة منه على المتبرع، فبدون الجثة، لا يمكن إجراء الجنازة، وقد يمضي عامين قبل أن يتم إرجاع الرماد أو بقايا الجثة إلى الأهل ليقوموا بدفنها.

بعد إحضار الجثث إلى المشرحة، يقوم المحنطون بضخ سوائل التحنيط، والتي عادة ما تكون مزيج من الإيثانول والفورمالين، في الشرايين، ويستخدم لذلك ما يعادل حوالي 25 إلى 40 لتر تقريباً، بعد ذلك يتم تبريد الجثث وفحصها بانتظام لمعرفة إن كانت العملية تسير على مايرام، حيث يمكن حقن بعض السوائل الإضافية مباشرة في المناطق التي لا تستجيب للتحنيط، وبمجرد أن تتم عملية التحنيط، يتم وضع الجثث التي ستستخدم للتدريس على طاولة معدنية في درجة حرارة مناسبة، ويتم تغطيتها بغطاء بلاستيكي يعلوه غطاء آخر، وبالغالب لا يتم كشف أي معلومة عن الجهة المانحة سوى العمر وسبب الوفاة، ولكن في نهاية العام الدراسي، يتم إعطاء كامل التفاصيل عن المتبرعين بأجسادهم للطلاب الذين يعملون عليهم، وهذه المرحلة عادة ما تكون مشحونة بالمشاعر بالنسبة لأغلب الطلاب.

شارك
نشر المقال:
فريق التحرير
الوسوم: التشريحعلوم