التصنيفات: غير مصنف

هل فقدت فئران المختبرات دورها كأدوات في التجارب العلمية؟

في التاسع عشر من شهر تشرين الثاني من عام 2014 نشرت مجلة (Nature) نتائج دراسة قامت بها موسوعة (Encode) الاتحادية الدولية، أجرت خلالها مقارنة بين الأنظمة التي تتحكم في نشاط الجينات لدى الفئران والبشر، وقد وجدت المواد الأربع حول هذا الموضوع بعض الأوجه المتشابهة الجديدة ولكنها أيضاً وجدت بعض الاختلافات، إلّا أن هذا لم يكن سوى غيض من فيض مشروع هائل وصل مجموع أبحاثه إلى عشرات المقالات، وقد تم نشرها في خمس مجلات مختلفة.

أصبحت فئران المختبرات تتصدر الأخبار حالياً، أو على الأقل على نطاق العالم العلمي، ففي الشهر الماضي أصدرت  مجلة (Science) مقالة توضح كيف استطاعت الهندسة الوراثية والتقنيات الجديدة في مجال الزرع إعطاء أمل جديد في فهم وعلاج مرض السرطان، حيث بدأ الباحثون يعقدون الآمال على قدرة التعديل الوراثي الذي يمكن إجراؤه على الفئران أو زرع أنسجة من أحد أنواع الأورام البشري فيها على إعادة إنتاج الحالة المرضية والعثور على الجزيئات المناسبة لعلاجها.

ولكن في نهاية شهر تشرين الأول نشرت مجلة (New England Journal of Medicine) مقالة تتحدث عن ثلاث تجارب سريرية أجريت لعلاجات محتملة لمرض السل لم تكن نتائجها إيجابية بالقدر التي كانت فيه بالنسبة للقوارض، حيث قام الباحثون باختبار ثلاثة أنماط جديدة من الأدوية التي كانت ذات تأثير فعال بالنسبة للفئران، ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً بالنسبة للبشر.

كان الدكتور (كليفتون باري)، وهو أحد الشخصيات الرئيسية في هذا المجال، ورئيس برنامج أبحاث السل في المعهد الوطني للصحة، في بيثيسدا بولاية ميريلاند، قد نشر العديد من المقالات حول هذا الموضوع، ولا سيما فيما يتعلق بموضوع الفئران، ولكنه في السنوات الثلاث الماضية أشار أنه قد فقد صبره مع هذه الحيوانات الصغيرة، لأن هذه الحيوانات قد تكون مفيدة للعمل العادي مثل تجارب علم السموم، وحتى أنها قد تكون مثالية للتحقق من وجود أي آثار جانبية غير مرغوب بها قد تنتج عن تراكم جزيء تجريبي جديد، ولكن بالتأكيد من الخطأ أن نفكر في هذه المخلوقات على أنها نموذج جيد للأمراض التي تصيب البشر.

يشير (باري) أنه على ما يبدو أن السل لدى الفئران هو ببساطة ليس نفسه عند البشر، فالفئران لا تصاب بالسعال، كما أن السل لديها ليس مرض معدي، والأهم من ذلك هو أنه عندما يستنشق البشر عصية كوخ (أو ما يعرف باسم المتفطرة السلية)، فإن هذا يثير لديهم استجابة مناعية، حيث تقوم خلايا الدم البيضاء بإحاطة البكتيريا وتشكيل ورم حبيبي تتموضع بداخله العصيات، ولكن لا تكون هذه الكتلة الليفية قادرة على قتل أي منهم، وهذا ما يجعل الشخص حامل للمرض ولكنه ليس بالضرورة مصاب به، وهناك نحو 2 مليار شخص حول العالم من الحاملين لهذا المرض، وعلى الرغم أنه في بعض الحالات يمكن أن يصاب هؤلاء الأشخاص بالمرض في النهاية، ولكن معظمهم يقضون حياتهم دون أن يعرفوا حتى بأنهم كانوا يحملون المرض، ولكن بالنسبة للفئران فالأمر مختلف تماماً، فليس هناك فئران حاملة للمرض بدون أن تكون مصابة به، ولا تقوم أجسامها بتشكيل أي أورام حبيبية، فهذه البكتيريا عندما تهاجم أجسام الفئران الحية، تتقدم فيه وفي النهاية تفرض سيطرتها.

أمضى (باري) سنوات وهو يبحث في هذه الفروقات الحاسمة، وذلك لقناعته بأن فهم الآليات التي يعمل فيه المرض لدى الفئران من شأنه أن يساهم في فهمه لدى البشر، ولكن قبل ثلاث سنوات طلب منه عالم من كوريا الجنوبية أن يختبر مضاد حيوي يدعى (ينزوليد) يستخدم في علاج أمراض الجهاز التنفسي، وأكد له أنه كان قد حصل على نتائج مذهلة من هذا الدواء على مرضاه، ولكن (باري) كان يشك في أمر هذا الدواء، حيث أنه كان قد جربه على الفئران ولم يحصل على أي نتيجة، إلّا أنه وبعد إصرار العالم قام بتنظيم تجربة على البشر، وكانت النتائج مذهلة، وبعد ذلك قرر (باري) التخلي عن الاستعانة بالفئران في تجاربه لأنه فعلاً طريق مسدود.

هذه الحقيقة تجعلنا نقف أمام سؤال مهم، هل كانت الفئران بمثابة فخ للعلماء جعل البحوث الطبية في جميع أنحاء العالم تتخذ الطريق الخاطئ؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد من العودة والنظر إلى التاريخ الذي بدأت معه هذه الثدييات الصغيرة تلعب مثل هذا الدور الهام في البحوث المختبرية.

في القرن التاسع عشر بدأ (جريجور مندل) بإجراء التجارب على الفئران، ولكن الأسقف المسؤول عنه اعتقد بأن مثل هذا العمل لا يليق براهب، ولذلك حول (مندل) انتباهه إلى البازلاء الحلوة، وذلك حتى جاء العالم الفرنسي (لوسيان كوينوت) في عام 1902 ليواصل عمله على الفئران، وفي الوقت ذاته قام (كلارنس ليتل) من الولايات المتحدة بتوليد “سلالة نقية” من الفئران بعد أن اكتشف بأن الفئران لا تتأثر سلباً من زواج الأقارب على عكس الأرانب أو الفئران البيضاء، وبهذه الطريقة يمكن الحصول على أفراد متطابقين واختبار أي فرضية، ومنذ ذلك الوقت أصبح العلماء يستغلون خصائص القوارض في جميع مجالات العلوم الطبية.

إن الفئران تمتلك العديد من المزايا البحثية، وذلك إلى جانب أنها حيوانات صغيرة وغير مكلفة وتتكاثر بسرعة – يمكن الحصول على جيل جديد كل ثلاثة أشهر – وبالإضافة إلى ذلك فإنها تتقدم بالسن بسرعة كبيرة جداً، مما يجعلها مثالية لدراسة الآثار الطويلة المدى والمتعلقة بالعمر، كما أن العلماء يعرفون كيفية التعامل وتجميد أجنتها وحيواناتها المنوية وبويضاتها، كل هذا يجعل منها أدوات رائعة، وحتى أن نظرة سريعة إلى قائمة جوائز نوبل في الطب يمكن أن تؤكد مساهمتها، فهناك العديد من الاكتشافات التي ساهمت الفئران في الوصول إليها مثل اكتشاف السلفوناميدات والبنسلين ولقاح الحمى الصفراء ولقاح شلل الأطفال، إلى جانب اكتشاف الأصل الخلوي للفيروسات المسرطنة وفيروس نقص المناعة البشرية الايدز.

ولكن في المقابل فإن هناك بعض الأدوية التي تكون مفيدة بالنسبة للفئران ولكنها قد تكون قاتلة بالنسبة للبشر، فمثلاً يشير (مارك كافايون) المتخصص في السموم أن هناك إحدى الأجسام المضادة الوحيدة النسيلة التي يمكنها أن تعالج سرطان الغدد الليمفاوية لدى الفئران، ولكنها قد تؤدي في المقابل إلى قتل الإنسان، وهناك الكثير من الأمثلة الأخرى، لذلك وعلى الرغم من أن الفئران تعتبر ركيزة أساسية في البحوث العلمية ويمكن استخدامها لفهم الأنماط الشاملة واستيعاب الآليات المختلفة، ولكن بمجرد أخذ الفئران على أنها نماذج يمكن القياس عليها في الأمراض التي تصيب البشر للعثور على العلاج الصحيح، فإن الفروقات التي توجد بيننا وبين الفئران تبدأ بالظهور.

إن المعارضين لفكرة استخدام الفئران في التجارب الدوائية يطرحون المزيد من الأدلة التي تدعم وجود فروقات بين البشر والفئران المخبرية، فمثلاً يشير هؤلاء الأشخاص إلى أن أدوية الباراسيتامول والأسبرين تعتبر من الأدوية القاتلة بالنسبة للفئران، في حين أن الثاليدومايد، وهو دواء كان يتم وصفه للنساء الحوامل للتخفيف من آثار غثيان الصباح، تبين أنه أدى إلى حصول العديد من التشوهات الخلقية، على الرغم من أنه نجح في اختباره على الفئران، كما أنه يمكن القول بأن 95٪ من الأدوية التي تبدو وكأنها واعدة بعد إجراء عدة تجارب عليها على الفئران، تفشل في التجارب السريرية، وذلك ناهيك عن القسوة التي يتم فيها معاملة هذه الحيوانات، فهناك حوالي 15 مليون فأر يموتون سنوياً في مختبرات الولايات المتحدة على الأقل، وما يصل إلى 7 ملايين آخرين يموتون في أوروبا.

في النهاية يشير العالم والمؤرخ (جان-بول جوديلير) وهو متخصص في الفئران، بأن الباحثين يحتاجون لأن يقوموا بنشر الأبحاث بين فترة وأخرى، ومع دورة الحياة القصيرة للفئران تصبح هذه المخلوقات الصغيرة نعمة لإنتاج المقالات، إلّا أنه من المؤكد أن الجميع يتفق على ضرورة إيجاد حل آخر، ولكن حالياً فإن جميع الحلول المطروحة إما أن تكون مكلفة جداً أو أنها تتطلب الحذر الكبير أثناء التعامل معها.

شارك
نشر المقال:
فريق التحرير