التصنيفات: متفرقات

هل ستستحوذ الآلات على جميع الوظائف البشرية في نهاية المطاف؟

في العقود الماضية، حلت الحواسيب، والآلات النقدية ومضخات الوقود الذاتية الخدمة إلى حد كبير محل الأمناء وصرافي البنوك وعمال محطات الوقود، على التوالي، وقد تكون مهنة قيادة الشاحنات هي التالية على لائحة الوظائف المهددة بالانقراض، فحالياً، تعمل كل من شركة (Google) و(Uber) و(Tesla) على ابتكار سيارات ذاتية القيادة، ابتداءً بتلك التي تقوم بالرحلات الطويلة، وإذا ما نجح هذا المشروع في أتمتة عمليات إيصال البضائع عبر البلاد، فإن هذا لن يكون فقط بمثابة هدية لشركات شحن البضائع – حيث أن الشاحنات ذاتية القيادة لا تحتاج لأن تقوم بأخذ فترات راحة إجبارية طويلة بعد أن إمضاء ساعات طويلة بالقيادة على الطريق – بل وستكون هدية أيضاً لسلامة الطرقات، فتبعاً للإحصائيات، فإن هناك ما يقارب 4000 شخص يموت سنوياً في الولايات المتحدة وحدها في حوادث الشاحنات الكبيرة، وعادة ما يكون خطأ سائق الشاحنة هو المسبب الأول لذلك.

من ناحية ثانية، فإن الشاحنات ذاتية القيادة قد لا تكون بمثابة أخبار سارة للجميع، حيث يشير النقاد إلى أنه قد لا ينبغي أن يتم إطلاق هذا الابتكار على الإطلاق، وذلك لأن هذا قد يكون له تأثير كبير على قطاع كبير من العمال، ففي الولايات المتحدة لوحدها، نجد أن هناك ما يصل إلى 3.5 مليون سائق و5.2 مليون عامل إضافي مساعد يعملون مباشرة في هذه الصناعة، ومثل هذا الابتكار قد يؤدي لجعلهم  عاطلين عن العمل، وبالإضافة إلى ذلك، فإن العديد من المحلات التجارية والفنادق الصغيرة التي لا تعد ولا تحصى والتي توجد على طول طرق الشاحنات، يمكن أن تتحول لتصبح مدن أشباح، وهذا يعني أنه وبعبارة أخرى فإن الشاحنات ذاتية القيادة، قد تدمر حياة الملايين من الأشخاص وتجلب الكوارث لقطاع اقتصادي كبير.

في الآونة الأخيرة، أصبحنا نسمع الكثير من التحذيرات من هذا القبيل، ليس فقط في مجال صناعة النقل بالشاحنات، ولكن بالنسبة لقوة العمل في العالم بأسره، فكلما أصبحت الأجهزة والبرمجيات والروبوتات أكثر تعقيداً، يتعاظم خوف البعض من أن نفقد الملايين من فرص العمل، فوفقاً لإحدى الدراسات التي لم تنشر بعد، الموجة القادمة من الابتكارات التكنولوجية ستهدد ما يصل إلى 47% من إجمالي العمالة في الولايات المتحدة.

ولكن هل يمكن أن تكون هذه التوقعات حقيقية بالفعل؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما مدى القلق الذي يجب أن نشعر به؟ فهل سيؤدي تولي الروبوتات لجميع المهام لجعلنا أشخاصاً كسولين ومتواكلين، أم أن الابتكار التكنولوجي سيعطينا حرية للقيام بأعمال أكثر إبداعاً؟

التحولات الناجمة عن المكننة

إن البحث في هذه المسائل يبدأ بإدراكنا بأن التكنولوجيا والابتكار وتحويل المعايير الثقافية، دائماً ما كان يؤدي لحدوث تحول في تكوين القوى العاملة، حيث أن الآلات بدأت بالاستيلاء على وظائفنا منذ عدة قرون، فتبعاً لـ(ديفيد أوتور)، أستاذ الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، اقتصاديات الأسواق لا تهدأ أبداً، فمنذ فترة طويلة جداً والصناعات تشهد عصور ازدهار وانحطاط، ودائماً ما كان ذلك يترافق مع تغيّر في المنتجات والخدمات.

في الماضي، كلما كانت إحدى الوظائف تختفي، كانت هناك أخرى تظهر في أعقابها، فالمهارات الحرفية –التي كانت من الأعمال التي لا غنى عنها في عام 1750 في انكلترا- تم الاستعاضة عنها بعمل المصانع عندما طغى الإنتاج على المستوى الصناعي على الصناعات المختلفة في القرن التاسع عشر، ولكن وبحلول ثمانينيات القرن الماضي، سقطت العديد من وظائف خطوط التجميع التي أحدثتها الثورة الصناعية في قبضة الآلات، وبشكل عام، فقد أدت هذه التغييرات إلى إحداث نتائج إيجابية أكثر من النتائج السلبية للمجتمع ككل، فبحسب (أوتور) أصبح لوقتنا قيمة أكبر بفضل الأجهزة التي تم ابتكارها، حيث أنها وفرت علينا الكثير من الوقت الضائع.

على سبيل المثال، استطاعت الغسالات الكهربائية تحويل مهمة تنظيف الملابس من مهمة تأخذ ساعات طويلة إلى شيء يمكن إنجازه بكبسة زر واحدة، كما استطاعت أجهزة الكمبيوتر القضاء على ساعات العمل المكثفة التي تتضمن الكثير من الأعمال الحسابية والكتابية، ومن ناحية أخرى فإن هذه التطويرات غالباً ما تكون مترافقة مع تعزيز نوعية الخدمات الحياتية والصحية والسلامة، لذلك وكما يقول (كارل فراي)، المدير المشارك لبرنامج مارتن أكسفورد للتكنولوجيا والتوظيف في جامعة أكسفورد، فإنه ينبغي أن يكون الأشخاص سعداء لكون الكثير من هذه الوظائف قد اختفت في الواقع.

مقارنة بالماضي، فإن التطور التكنولوجي الحاصل اليوم  يختلف عن التطور السابق من حيث الوتيرة التي تتحول فيها الأسواق، فبصرف النظر عن الثورة الصناعية، لم نشاهد من قبل مثل هذه المعدلات السريعة في التغيير الحاصل في المجتمع وفي القوى العاملة، وعلى الرغم من أنه لا يزال من السابق لأوانه أن نجزم بالأمر، إلّا أن البيانات تشير إلى أن سوق العمل لا يتطور بسرعة كافية لمواكبة هذا التغيير، حيث أن نسبة العمالة قد انخفضت بشكل كبير في البلدان المتقدمة مقارنة مع عدد السكان الإجمالي، وتبعاً لـ(فراي)، الأدلة تشير إلى أن الاقتصاد الرقمي لم يخلق العديد من فرص العمل بشكل مباشر، كما أن الوظائف التي خلقها تميل لأن تتركز في المدن الكبرى، وهذا الأمر سيؤدي لارتفاع الأسعار في هذه المدن، ويخلق حيزاً من عدم المساواة ويجعل من الصعب على الأشخاص بأن يعيشوا فيها.

في الوقت الذي بدأت فيه بعض الوظائف مسيرتها نحو الانقراض، بدأ الكثير من الأشخاص الذين اعتادوا بأن يشغلوا تلك المناصب المتوسطة الدخل، مثل وكلاء السفر، عمال مقاسم الهاتف، فنيو مختبرات التصوير، وعاملو تجليد الكتب، بالتحول إلى أعمال ذات دخل منخفض، مثل خدمة الطاولات في المطاعم، تنظيف المنازل، العمل في الحدائق، لأنها يفتقرون إلى التدريب اللازم للانتقال إلى وظيفة أخرى التي تتطلبها الدرجة الاقتصادية المكافئة، وبحسب (أليسون ساندر)، مديرة مركز الاستشعار عن بعد في مجموعة بوسطن للاستشارات، فإن هناك تحولات كبيرة تحدث في المهارة التي أصبح الأشخاص بحاجة إليها، لكن هذا الأمر لا يتم أخذه بعين الاعتبار في محور النظام التعليمي.

يضيف (أوتور) بأن الطلب على الأشخاص الذين يمتلكون مهارات وتعليماً عالياً بدأ يتزايد بشكل حاد في الآونة الأخيرة، ولكنه ينخفض بشدة بالنسبة للأشخاص من ذوي التعليم المنخفض أو المعتدل، وهذا يعني أن جزءاً كبيراً من السكان الذين تمكنوا من المحافظة على نمط حياة الطبقة المتوسطة في العقود الماضية لن يكون بإمكانهم القيام بذلك بعد الآن، ومن المتوقع أن تشهد السنوات المقبلة هذه المشكلة بشكل مكثف، حيث أن جميع الوظائف التي تنطوي على أي نوع من العمل الروتيني أو المتكرر – عقلي أو بدني – أصبحت تحت خطر الأتمتة، ومن الوظائف التي تشتمل عليها قائمة المهن المهددة بالانقراض في المستقبل القريب، عمال الوجبات السريعة، أمناء صناديق، عمال الاتصالات الهاتفية، المحاسبين، والنوادل.

بالإضافة إلى ذلك، فقد تتحول الوظائف التي كان يتطلب القيام بها نوعاً من التحدي وامتلاك خبرات عالية المهارة، لتصبح من الأمور البسيطة، وذلك بفضل الأتمتة، وقد بدأ هذا يحدث اليوم، فمع أتمتة بيانات الأشعة السينية والسجلات الطبية الأخرى وتطوير خوارزميات حاسوبية أفضل لتفسيرها، أصبح فنيو الأشعة، على سبيل المثال، يجدون أنفسهم وهم يتعاونون مع الآلات، ويعملون كمدققين للأدلة أكثر من عملهم كباحثين طبيين.

وظائف قديمة بتوصيف جديد

ولكن مع ذلك، فإنه ليس بالضرورة أن تسبب الأتمتة العذاب والضجر لقطاعات كاملة من القوى العاملة، فطالما كان هناك وظائف متاحة تتطلب قدراً من المشاركة البشرية، سيكون هناك مجال لاستمرار عمل الأشخاص بها، فعندما بدأ محرك البحث (Google) يكتسب الزخم منذ عشر سنوات أو قبل ذلك، على سبيل المثال، كثرت المخاوف بأنه لن يعود هناك حاجة لتوظيف أمناء المكتبات بعد الآن، ولكن وبدلاً من ذلك، فقد فتحت أبواب جديدة وكثيرة أمام الأمناء، وكل ما تغير هو أنه أصبح هناك حاجة إلى مهارات جديدة للتفوق في هذه المهمة الجديدة، لذلك يشير (أوتور) بأنه إذا كان من الممكن لجهاز أن يحل تماماً محل الإنسان، فليكن كذلك، لأنه إذا كنت أنت الشخص الذي سيقوم بالتحكم بهذا الجهاز، فإن قيمتك ستصبح أكبر.

أضف إلى ذلك، فإنه ما لم يحدث أمر في غاية التطور، فإن الآلات والبرامج لن تحل أبداً محل بعض الوظائف، فحتى الآن، البشر هم المتفوقون على أي آلة فيما يخص الأعمال التي تعتمد على الإبداع وريادة الأعمال، ومهارات التعامل مع الآخرين والذكاء العاطفي، لذلك فإن الوظائف التي تندرج ضمن هذه الفئات – بما في ذلك رجال الدين والممرضات والمتحدثين ومقدمي الرعاية والمدربين والفنانين وغيرهم الكثيرين – ستبقى تبلي بلاء حسناً في عالم مستقبلي يعتمد بشكل متزايد على الآلات والأجهزة الإلكترونية.

وبالمثل، يشير (فراي)، إنه ولمجرد أن يكون شيء ما قابلاً للأتمتة، فإن هذا لا يعني بأنه سيصبح كذلك، فحتى لو بدأت المطاعم بالاعتماد على الروبوتات لتسجيل طلبات الطعام، وتقديم الأطباق وملء المشروبات، فليس بالضرورة بأن يقوم المجتمع بتأييد هذا التغيير، فقد يتبين بأن الأشخاص يريدون ببساطة أن يتم تقديم الطعام لهم من قبل أشخاص حقيقين آخرين، وليس من قبل الآلات، وهذا يتضح من عودة ظاهرة الحرفيين التي بدأت تظهر مؤخراً في المراكز الحضرية في جميع أنحاء العالم، من بروكلين إلى لندن إلى برلين لبورتلاند، حيث اتضح أن هناك سوقاً مزدهرة للأثاث والحرف والأطعمة وغيرها الكثير من المنتجات المصنوعة يدوياً.

بالتأكيد، فإنه بالنسبة لجميع المهن التي يتم إغلاق أبوابها من قبل التكنولوجيا، فإنه سيكون هناك أيضاً موجة من المسارات المهنية الجديدة التي يجب على الأشخاص خلقها واستكشافها، تماماً كما في بعض وظائف اليوم – كمدراء وسائل التواصل الاجتماعي، أو مصممي التطبيقات – التي كان من المستحيل أن نتصورها في عام 1995، لذلك فنحن لا يمكن أن نتنبأ بشكل قاطع أنواع المهن الجديدة التي ستظهر في المستقبل، ولكن يمكننا أن نقوم بضرب بعض التخمينات بناء على البيانات والاتجاهات الاجتماعية، حيث تتصور(ساندر) بأن تحتل مهن مستقبلية قطاعات اقتصادية كبيرة، مثل المستشارين الوراثيين، والمتخصصين في مكافحة الشيخوخة، وخبراء تخفيف آثار الكوارث الطبيعية في المناطق الحضرية، كما أنها تتوقع بأنه مع انتقال المزيد من الأشخاص إلى المدن، ستظهر وظائف مثل مزارعي المناطق الحضرية، ومستشاري القلق واستشاريي الفوضى وحتى علماء النفس للحيوانات الأليفة.

في الوقت نفسه، فإنه لا ينبغي لنا أن نفترض تلقائياً بأن الاقتصاد سوف يعيد التوازن لنفسه بشكل طبيعي ويصحح ذاته ذاتياً، فحتى ولو حدث هذا في الماضي، بيد أنه لا يوجد ضمان بأن المستقبل سيسير بذات الطريقة، لذلك وللتقليل من الألم الذي يمكن أن يحل بالمجتمع إلى أقل قدر ممكن،  ينبغي لنا أن نكون متأكدين مسبقاً بأن التدمير الخلاق للوظائف سيقترن مع أماكن عمل مؤمنة مسبقاً للذين سيفقدون أعمالهم، فعلى الرغم من أن الأتمتة تحقق المزيد من الازدهار على المدى الطويل، ولكنها تخلق أيضاً تحديات في مجال توزيع الدخل، حيث أنها يمكن أن تؤدي لزيادة مستوى الفقر في المجتمع، لذلك فإذا ما تمكّنا من تصنيع البضائع دون تدخل اليد العاملة البشرية، فإن المشكلة لن تعود محصورة بعدم توافر الوظائف، بل إنها ستتحول لمشكلة ركود في الثروات الصناعية أيضاً.

بحسب (إريك برينجولفسون)، مدير مبادرة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الاقتصاد الرقمي، فإن أحد الخيارات التي يمكن للمجتمع إتباعها قد تشمل إنشاء برامج دعم لتدريب العاطلين عن العمل مؤقتاً، تكون متاحة للجميع، للمساعدة على نقل هؤلاء الأشخاص إلى قطاعات جديدة، ومن ناحية ثانية، يجب أن يواكب التعليم التغييرات المجتمعية أيضاً، وهذا يعني أنه من الواجب إعادة النظر بالمناهج الحالية، للتأكد من أن الحكومات تقوم بإعداد الأشخاص بالطريقة الصحيحة للمستقبل، فبحسب (ساندر)، العديد من المهارات التي يجري تدريسها اليوم لم تعد ذات صلة بالوظائف الحالية، وهذا الأمر قد أدى بالفعل إلى عدم وجود تطابق بين العرض والطلب.

في النهاية، يشير (برينجولفسون)، بأنه من الممكن جداً أن تستحوذ الآلات وأجهزة الذكاء الاصطناعي على المهام المهنية التي يؤديها البشر حالياً، وذلك على الرغم من أنه لا يعتقد بأن ذلك وشيك الحدوث، ولكن السماح للآلات بتولي بعض المهام إلى حد ما ليس بالضرورة أمر سيء للغاية، خصوصاً بأن هذا يضمن تقريباً زيادة الثروة العامة والرفاه، ويجعل الأشخاص غير مجبرين على تأدية أعمال لا يريدون القيام بها.

شارك
نشر المقال:
فريق التحرير