متفرقات

هل حقاً لا نكتسب العلم إلا بالتجربة العملية؟

يعتبر التصنيع قديماً بقدم التعليم نفسه، ولكن في حين أن حركة الصانع (maker movement) –وهي تقنية من تقنيات التعليم الحديثة- لم تبدأ سوى قبل حوالي عقد فقط من الزمن، فإن الرغبة الإنسانية في الخلق تعتبر واحدة من أولى أشكال النشاط البشري، من صنع الأدوات الحجرية إلى الرسم على جدران الكهوف، كما وقد ساعد العديد من المفكرين أمثال (مونتيسوري) و(بابرت) على تمهيد الطريق لحركة الصانع من خلال التشديد على أهمية التعليم ذو المعنى الذي يتمحور حول قيام الطلاب بتصنيع الأشياء بأيديهم، بدلا من النظر إلى التعليم على أنه عملية نقل للمعرفة من المعلم إلى الطالب، حيث تبنّى هؤلاء المفكرين فكرة أن الأطفال يمكن أن يتعلموا بشكل أفضل عندما يتم تشجيعهم على الاكتشاف واللعب والتجربة.

في الآونة الأخيرة، يتم استخدام التعليم بالتصنيع كوسيلة لربط التعليم من خلال صنع الأشياء بنفسك، اختصاراً Do it yourself  أو “DIY”، بالفصول الدراسية، وانطلاقاً من التكنولوجيات الجديدة المتوفرة مثل الطباعة الثلاثية الابعاد، والروبوتات، والترميز المخصص للأطفال، بدأ التصنيع يبرز بوصفه وسيلة فعالة لتعريف الطلاب على العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، أو ما يعرف اختصاراً بـ(STEM)، ولا سيما بالنسبة للنساء والأقليات، فمن خلال دمج عنصر التصنيع في الفصول الدراسية، يمكن للمعلمين سد الفجوة بين الأشياء التي يشعر الطلاب بالحماسة تجاهها وبين ما يتعلمونه في المدرسة.

علم التدريب العملي للتعلم (Hands-on learning)

تعتبر فكرة أن جميع الطلاب يمكن أن يكونوا أشخاصاً مبدعين جوهر التصنيع، فبدلاً من مجرد إعطاء المعلومات بشكل تلقيني للطلاب وإجبارهم على حفظها لإجراء الاختبارات لهم فيما بعد، يتم تشجيع الطلاب على استخدام ما يعرفونه لتصميم وبناء المشاريع، سواء كان ذلك باستخدام أشياء من الحياة اليومية لصناعة الموسيقى أو باستخدام الطابعة الثلاثية الأبعاد لبناء يد اصطناعية ميكانيكية للطفل.

يلعب التدريب العملي للتعلم دوراً رئيسياً في التعليم  بالتصنيع، ونبدو مساحة العمل المشترك النموذجية كورشة عمل أكثر من فصول دراسية، حيث أنها تحتوي على جميع الأدوات والتجهيزات الفنية، وقطع الكمبيوتر التي تملء الغرفة، أما بالنسبة للكتب المدرسية -إذا وجدت- فهي تستخدم كمراجع – أدوات لمساعدة الطلاب في تصميم وبناء مشاريعهم – على عكس الفصول الدراسية التقليدية حيث أن تحفيظ كتاب بحد ذاته هو الهدف.

في مدرسة مقاطعة ألبيمارل العامة، يعزز التصنيع من استقلالية الطلاب، حيث أنه يشعل اهتمامهم، ويمكّنهم من فهم ما يتعلمونه، وبحسب المشرفة عن المدرسة (بام موران) فإن إحدى الأشياء التي اكتشفوها هي أن استخدام تقنية التعليم من خلال التصنيع مع الأطفال يحوز على اهتمامهم، ويجعلهم متحمسين للعمل، ويعطيهم الفرص لفعل الأشياء التي يهتمون بها، والنتيجة هي أن ذلك يرفع حقاً من مستوى العمل الذي يقوم به الأطفال، ويجعل له معنى، وهذا بدوره يجعل الذهاب إلى المدرسة يصبح أمراً أكثر منطقية.

تبيّن البحوث أن التدريب العملي على التعلم هو وسيلة فعالة لتعليم طلاب مختلف العلوم، حيث وجدت دراسة تم إجراها في عام 2009 بأن طلاب الصف الثامن الذين شاركوا في المشاريع العلمية المبنية على التدريب العملي أظهروا فهماً أعمق للمفاهيم من الطلاب الذين حصلوا على تعليمهم بالطرق التقليدية مثل قراءات الكتب والمحاضرات والاختبارات.

ولكن، ما الذي يجعل التدريب العملي فعالاً لهذه الدرجة؟ إن الأمر يتعلق بعلم الأعصاب، حيث أن الطلاب الذين يشاركون في التجارب العلمية، بدلاً من مجرد مراقبتهم لها، يصبح لديهم فهم أعمق للمفاهيم العلمية، فمن خلال تصوير الدماغ، وجد الباحثون أن التجربة المادية تنشّط المنطقة الحسية من أدمغة الطلاب، مما يساعد على تعزيز ما يتعلمونه، كما أن استخدم الطلاب لأيديهم بالإضافة لعقولهم، يجعلهم يتعلمون أساساً مرتين.

عقلية الصانع: تدريس الطلاب كيفية طرح الأسئلة وتبني الأخطاء

إن التعليم من خلال التصنيع ليس فقط مجرد أدوات وتكنولوجيا فقط، حيث يرى (دايل دوجيرتي)، مؤسس معرض التصنيع، بأن الصناعة هي وسيلة لتطوير إمكانات الشخص الكاملة، ولذلك فإن تعزيز عقلية الصانع من خلال التعليم هو مشروع إنساني أساسي، فهو يدعم النمو والتنمية من الناحية الجسدية، والعقلية والعاطفية أيضاً.

يشجع التصنيع الطلاب على طرح الأسئلة وتلقي الأجوبة بطريقة منهجية، وعلى النقيض من نهج “إجابة واحدة هي الصحيحة”، فإن هذه العقلية تشكل وسيلة للاقتراب من حل المشلكة من خلال التجريب واللعب، كما وتعتبر الأخطاء جزء من التعلم، لأنها تبين بأن الطلاب يقومون بتوسيع حدود قدراتهم، فكل خطأ يتم ارتكابه هو فرصة لدمج النتائج السابقة في التصميم الجديد، ووسيلة لمواجهة التحديات غير المتوقعة سابقاً، وعلى حد تعبير (كلود ليفي شتراوس)، “فإن العالم ليس الشخص الذي يعطي الإجابات الصحيحة، بل هو الشخص الذي يطرح الأسئلة الصحيحة”.

في ثقافة اختبار المهارات، قد يفكر الطلاب في التركيز على التوصل إلى الإجابات الصحيحة، في الوقت الذي ينبغي لهم أيضاً التفكير في الأسئلة الصحيحة.

يمكن للتساؤل أن يكون شكلاً قوياً من أشكال التعلم، حيث تبيّن البحوث بأن الطلاب يتعلمون بشكل أكثر تعمقاً عندما يكون بإمكانهم تطبيق المعرفة التي حصلوا عليها في الفصول الدراسية على مشاكل العالم الحقيقي، كما أن طرح الأسئلة يوفر السياق الذي يساعد على تعزيز تعلّم الطالب، ويساعد الطلاب على نقل ما تعلموه إلى أنواع جديدة من الحالات، بما فيها تلك التي تكون خارج الفصول الدراسية.

قوة الإدماج

واحدة من الميزات الأكثر إثارة في نهج التعليم من خلال التصنيع، هي قدرته على جذب الطلاب الذين قد يواجهون مشاكل في مجالات الهندسة والرياضيات والتكنولوجيا والعلوم، كما أنه وعلى الرغم من كون المرأة تشكل 57% من عدد الطلاب الجامعيين، فإنها لا تشكل سوى 19% فقط من طلاب الهندسة، كما أن الطلاب السود وذوي الأعراق المختلفة الذين يشكلون 29% من الطلاب الجامعيين، لا يشكلون سوى 15% فقط من طلاب الهندسة.

ولكن لماذا يتم تمثيل النساء والأقليات العرقية تمثيلاً ناقصاً في هذه المجالات؟ أحد الأسباب المحتملة هو أسلوب التدريس المستخدم عادةَ، فمن خلال المقارنة التي أجرتها إحدى الدراسات في عام 2014 لمادة البيولوجيا في الصفوف الدراسية في الجامعات بين تلك التي تُدرّس بشكل محاضرات تقليدي والتي تُدرَس بشكل نشاط تفاعلي (تقدم المزيد من الإرشاد والتفاعل للطالب)، تبيَن بأنه عند استخدام النشاط التفاعلي، زاد متوسط درجات امتحان، وكان طلاب الجيل الأول والطلاب العرقيين هم المستفيد الأكبر، وبعبارة أخرى، يمكن للتعلم من خلال النشاط التفاعلي أن يكون أداة قوية للمساعدة في جعل حب الهندسة والرياضيات أكثر شمولاً.

من خلال التركيز على الإبداع، والفن، واللعب، والقيام بالمشاريع بطريقة ذاتية، أصبح لدى نهج التعلم من خلال التصنيع القدرة على جذب مجموعة واسعة من المهتمين، حيث وجد تقرير تم إجراؤه في عام 2014 بأن الفتيات الذين يشاركن في برامج التعلم من خلال التصنيع، استطعن تطوير مهارات أقوى في علوم الكمبيوتر والهندسة، ومن خلال الانخراط في مجال التصنيع، يمكن للفتيات اكتساب المهارات والمعرفة والثقة والكفاءة الذاتية اللازمة للحصول على حياة مهنية ناجحة في مجالات العلوم والرياضيات والهندسة والتكنولوجيا.

التعلم الحقيقي هو دورة مستمرة من الفضول والتحقيق والتجريب والبحث والتفكير، وكل هذه الأشياء تعتبر ميزات رئيسية في مجال التصنيع، وعلى الرغم من أن التعليم من خلال التصنيع عادة ما يتم تعريفه بأنه يتمحور حول الطابعات الثلاثية الأبعاد ولوحات اردوينو، إلا أنه في الحقيقة ثقافة تتمحور حول التصنيع بحد ذاته.