كيف تتمكن الخلايا السرطانية من الانتشار ضمن الجسم؟

في عام 1995، بينما كان عالم الطب الحيوي (بيتر فريدل) ما يزال طالب دراسات عليا في جامعة ماكجيل في مونتريال، رأى شيئاً مذهلاً أبقاه مستيقظاً لعدة ليال، حيث بدأت مجموعة متناسقة من الخلايا السرطانية كان قد زرعها في مختبر مشرفه بالتحرك خلال شبكة من الألياف التي كان من المفترض أن تحاكي الفراغات بين الخلايا في جسم الإنسان.

لأكثر من قرن من الزمان، كان العلماء يعلمون بأن الخلايا السرطانية الفردية يمكن أن تنتقل وتترك الورم لتهاجر من خلال مجرى الدم والنظام اللمفاوي إلى أجزاء بعيدة من الجسم، ولكن لم يكن أحد قد شاهد ما شاهده (فريدل) في مجهره، وهو كتيبة من الخلايا السرطانية تتحرك وكأنها خلية واحدة، وقد كان هذا الاكتشاف جديد للغاية وغريباً لدرجة أنه في البداية وجد صعوبة في نشره، حيث أشار (فريدل) بأن البحث تم رفضه لأنه لم يكن هناك صلة واضحة بين هذا الاكتشاف والنمو الثانوي للأورام الخبيثة، ولكن في النهاية، استطاع (فريدل) نشر بحث قصير في مجلة (Cancer Research).

بعد عقدين من الزمن، اقتنع علماء الأحياء بشكل متزايد بأن المجموعات المتنقلة من الخلايا الورمية – على الرغم من أن حدوثها أندر من انتشار الخلايا الفردية- هي المسبب لبعض- وحتى معظم- النمو الثانوي للأورام الخبيثة المنتقلة التي تتسبب في 90% من مجموع وفيات السرطان، لكن (فريدل)، الذي انتقل إلى جامعة رادبود في هولندا، لم يشعر بأنه يفهم حقاً ما كان قد رآه هو وزملائه في المختبر حتى عام 2013، حيث أن الأمور اتضحت أخيراً بالنسبة له عندما قرأ بحث (جيفري فريدبرغ)، أستاذ الهندسة الحيوية وعلم وظائف الأعضاء في جامعة هارفارد، والذي اقترح أن الخلايا يمكن أن “تتكدس”، أي ترتبط معاً بقوة بحيث تصبح وحدة.

ركزت أبحاث (فريدبرغ) على خلايا الرئة، ولكن (فريدل) اعتقد بأن الخلايا السرطانية المهاجرة التي كان قد زرعها تكدست أيضاً، حيث قال “أدركت بأنه كان لدينا نفس الشيء بالضبط، سواءً في الأبعاد أو في الحركة”، وأضاف “هذا جعلني متحمساً جداً، لأنه كان مفهوماً متاحاً يمكن أن نضعه مباشرة ضمن نتائجنا”، وبعد ذلك، سرعان ما نشر أحد أول أبحاثه التي تطبق مفهوم التكديس على القياسات التجريبية للخلايا السرطانية.

مؤشر التكديس

غالباً ما كان علماء الأحياء يرون السرطان باعتباره برنامجاً جينياً أصابه خطأ ما، مثل الطفرات والتغيرات جينية، مما ينتج خلايا لا تتصرف بالطريقة التي ينبغي لها أن تتصرف بها، فمثلاً يمكن أن يتم تفعيل الجينات المرتبطة بانقسام الخلايا ونموها، في حين يتم إيقاف تشغيل الجينات المبرمجة لموت الخلية، ومع ذلك، فبالنسبة لعدد صغير ولكنه متزايد من علماء الفيزياء، فإن الشكل والسلوك المتغير للخلايا السرطانية لا يستثير فقط حدوث خطأ في البرنامج الجيني ولكن أيضاً يحفز حدوث مرحلة انتقالية.

يعتبر مفهوم المرحلة الانتقالية – وهو تغيير في ترتيب المواد الداخلية بين مرحلة النظام والفوضى- حجر الأساس في الفيزياء، فكل من شاهد ذوبان الجليد أو شاهد الماء وهو يغلي قد شاهد مرحلة انتقالية، وقد وجد علماء الفيزياء أيضاً مثل هذه التحولات في المغناطيس، البلورات، أفواج الطيور، وحتى الخلايا (والمكونات الخلوية) عند وضعها في بيئات اصطناعية.

ولكن بالمقارنة مع المادة المتجانسة مثل الماء أو المغناطيس – أو حتى مجموعة من الخلايا المتطابقة في طبق- فإن الخلايا السرطانية تكون في حالة من الفوضى العارمة، فأنواع السرطان تعتمد اعتماداً كبيراً على الأفراد والأعضاء التي طوروها داخلهم، فحتى ورم واحد يمكن أن يضم خليطاً مذهلاً من الخلايا ذات الأشكال والأحجام والتراكيب البروتينة المختلفة، ويمكن لهذه التعقيدات أن تجعل علماء الأحياء حذرين من الإطار النظري العام، ولكن دون أن يثبط همة علماء الفيزياء، فبحسب عالم الفيزياء (كراستان بلاجويف)، الذي يدير برنامج مؤسسة العلوم الوطنية الذي يمول الأعمال مثل الفيزياء النظرية في الأنظمة الحية، فإن علماء الأحياء مدربين أكثر على النظر في التعقيدات والاختلافات، أما علماء الفيزياء فيحاولون النظر إلى القواسم المشتركة واستخراج السلوكيات من الشيوع.

في محاولة لإظهار هذا النهج، قام كلاً من عالما الفيزياء (أندريا ليو)، من جامعة ولاية بنسلفانيا، و(سيدني ناجل) من جامعة شيكاغو بنشر تعليقات موجزة في مجلة (Nature) في عام 1998 عن عملية التكديس، وخلال هذه التعليقات، أعطى الباحثان الظاهرة أمثلة مألوفة، مثل الاختناقات المرورية وأكوام الرمال، وهذه الأمثلة تمثل عناصر فردية ارتبطت معاً بقوة بحيث بدأت تشبه المادة الصلبة، كما قدم كل من (ليو) و(ناجل) اقتراحاً غير عادي يشير إلى أن التكديس قد يكون مرحلة انتقالية غير معروفة من قبل، وهي الفكرة التي بدأ الفيزيائيون، بعد أكثر من عشر سنوات من النقاش، يعترفون بها الآن.

على الرغم من أن هذا لم يكن أول ذكر لظاهرة التكدس في الكتابات العلمية، إلا أن أبحاث (ليو) و(ناجل) ثبّتت ما يسميه فريدبرغ) بالـ”طوفان” بين علماء الفيزياء، وعندها أدرك (فريدبرغ) بأن الخلايا في أنسجة الرئة، التي قضى معظم حياته المهنية في دراستها، معبأة بشكل وثيق بطريقة مماثلة لحبوب البن والرمال في الأكياس، وفي عام 2009 نشر هو وزملاؤه أول بحث يشير بأن التكدس يمكن أن يثبّت الخلايا في الأنسجة بمكانها، وأن الانتقال غير المتكدس يمكن يحرك بعضاً من تلك الخلايا، وهو احتمال يمكن أن يكون له آثار على الربو وغيرها من الأمراض.

ظهر البحث وسط اعتراف متنام بأهمية الميكانيكا، وليس فقط علم الوراثة، في توجيه سلوك الخلية، فبحسب (فريدبرغ)، كان الأشخاص يعتقدون دائماً بأن الآثار الميكانيكية كانت في معظمها نهاية سلسلة سببية، وأن المنبع هو عوامل وراثية وجينية، ولكن بعد ذلك، اكتشف الأشخاص بأن القوى الفيزيائية والأحداث الميكانيكية يمكن في الواقع أن تكون منبع الأحداث الوراثية، حيث أن الخلايا تعي تماماً ميكانيكية بيئتها المكورية.

بعد أن قرأت (ليزا مانينغ)، وهي فيزيائية في جامعة سيراكيوز، بحث (فريدبرغ)، قررت أن تضع فكرته موضع التنفيذ، ولذلك قامت وزملائها باستخدام نموذج ثنائي الأبعاد من الخلايا التي ترتبط على طول حوافها وفي القمم، مالئةً بذلك كامل المساحة، ونتيجة لذلك، خرج الباحثون بمعامل متغير – أي عدد قابل للقياس يحدد كمية المواد الداخلية في النظام- أسموه “مؤشر الشكل”، وتبين بأنه عندما يكون هذا العدد مساوياً لـ3.81 أو أقل، فإن النسيج يكون عبارة عن مادة صلبة، وعندما يكون هذا العدد أكثر من 3.81، فإن الأنسجة تكون سائلة.

بعد ذلك، أعاد (فريدبرغ) النظر إلى خلايا الرئة التي كان يدرسها، ووجد بأنه عندما يكون مؤشر الشكل لديها يزيد عن 3.81 فإنها تبدأ بالتحرك والإنكماش للمرور من خلال بعضها البعض.

في الوقت نفسه، كان (جوزيف كاس)، وهو فيزيائي في جامعة لايبزيغ في ألمانيا، يتساءل ما إذا كان التكدس قادراً في المساعدة على تفسير السلوك المحير للخلايا السرطانية، حيث كان يعلم من دراساته الخاصة بأن سرطان الثدي وأورام عنق الرحم التي تكون في الغالب قاسية، تحتوي أيضاً على خلايا لينة، يمكن أن تنتقل ضمن البيئة المحيطة، وإذا كان الانتقال غير المتكدس هو من يساهم في انتقال هذه الخلايا السرطانية، فقد يكون هناك استجابة محتملة، وقد يكون تحليل عينات الخلايا السرطانية لمدى تكدسها، قادراً على تحديد ما إذا كان الورم على وشك الانتقال أم لا.

يعتقد (كاس) أيضاً بأن الفكرة قد تسفر عن سبل جديدة للعلاج ألطف من النهج الصادم والمرعب الذي يتبعه الأطباء عادة للسيطرة على الورم.

علم الأحياء في المرحلة الانتقالية

على الرغم من أن نماذج التكدس الخلوي قد تكون مفيدة، إلّا أنها لا تزال ناقصة، فعلى سبيل المثال، اقتصر نموذج (مانينغ) على بعدين حتى الآن، وذلك على الرغم من أن الأورام ثلاثية الأبعاد، ولكن حالياً تعمل (مانينغ) على إصدار نموذج ثلاثي الأبعاد من الحركة الخلوية، وحتى الآن يبدو بأن النموذج يعمل بذات الجودة التي يعمل بها النموذج ثنائي الأبعاد.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الخلايا ليست ببساطة حبوب الرمل، فالخلايا في الأورام أو الأنسجة يمكن أن تغير خواصها الميكانيكية بطرق غالباً ما تكون معقدة، وذلك باستخدام البرامج الوراثية وغيرها من حلقات ردود الفعل، وإذا كان التكدس سيوفر مفاهيماً متماسكة لجوانب من السرطان، فسيحتاج إلى حساب هذه القدرات، فتبعاً لـ(فاليري ويفر)، مديرة مركز الهندسة الحيوية وتجديد الأنسجة في جامعة كاليفورنيا، في سان فرانسيسكو، فإن الخلايا ليست سلبية، بل يمكن أن تستجيب.

 

 

شارك
نشر المقال:
فريق التحرير