التصنيفات: أخبار العلوم

عنترية سقراط

بقلم أ. د. نصرالله محمد دراز

عندما  يخطر بذاكرتنا العربية سيرة الفارس المقدام عنترة بن شداد بن قراد العبسي، نتذكر على الفور السلوك القويم والشجاعة والإقدام في الحرب، لأن هذه الصفات كانت جزء لا يتجزء من شخصية عنترة. والعنترية عندنا نوعان، أحداهما كانت فى المعنى الحقيقى للعنترية ألا وهى عنترية عنترة أى العنترية الأصلية التى قد تنتهى بالموت، أما النوع الثانى فنجده فى العنترية الجوفاء الخاوية من كل معانى الشجاعة والاقدام والتى هى فى حقيقتها لن تكون أكثر من ظاهرة صوتية. ووسط دروب العنترية نلتقى بمن قال ”  وليس سباع البر مثل ضباعه ……..ولا كل من خاض العجاجة عنتر”.

عنترية أبو الفلسفة الفكرية

أشارت حوارات أفلاطون الى مدى الشجاعة والاقدام لأبو الفلسفة الفكرية “سقراط” أثناء فترة خدمته العسكرية التى شملت ثلاث معارك سميت: بوتيديا وأمفبوليس وديليوم. ولقد وثقت الشهادة بشجاعة وبسالة “سقراط”  فى حوار المأدبة على لسان  “ألكيسيبياديس”  في معركتي “بوتيديا” و”ديليوم”  الذى أكد أن “سقراط” قد أنقذ حياته في معركة “بوتيديا”. ان من أبلى بلاء حسنا فى ساحات الحروب، كما جاء فى حوار “لاكاس” عن سقراط، بالطبع لن يكون بالرجل البسيط خفيف الوزن كما أدعى عليه بعض أعدائه وبعض سفهاء قومه. سفهاء اتخذو من مظهره وضيق حاله قرينة عليه ليرمونه بقذارة أقوالهم وضحالة أفكارهم. تأكدت عنترية “سقراط” فى ميادين الفحص والدرس كما تأكدت فى الميادين العسكرية، فلم تكن له مدرسة أو جامعة يلقى فيه درسه، ولم يتوقف فى درسه عند مرحلة عمرية أو فئة مجتمعية معينة. انها عنترية سقراطية حتى فى ألية التدريس، فلم ينتظر فليسوف الفلاسفة طالب العلم أن يحضر اليه، بل سعى هو الى تلاميذه سعيا دون انتظار، فكان سقراط يعلّم الناس في الشوارع والأسواق والملاعب والمناطق العامّة الأخرى. قمة الشجاعة والقوة فى محاورة جمهور الناس والوصول بهم الى كل ما يريد، موهبة فريدة فى نوعها فى هذا المنهج التوليدى لسقراط. انها عنترية سقراطية تجلت فى محاورته  للمجاميع المتنوعة من الناس  (الصغار والكبار، الذكور والإناث، العبيد والأحرار، الأغنياء والفقراء) وإقناعهم بالانضمام إليه. آمن بالديمقراطية فتناول كل الأمور دون خوف أو تردد، انها حقا قمة العنترية الفكرية التى انتهت بمحاكمته التى انتهت هى بموته بسم الشوكران. وان كان لنا أن نقنن عنترية سقراط ونحدد أعمدتها وقواعدها، فيمكننا القول بأنها كانت عنترية شاملة جامعة تجلت فى كل من ميدان الحرب وميدان الفحص والدرس ناهيك عن ميدان الرأى والمشورة أو ما يمكن تسميته بمجلس الشيوخ. لم يكن الرجل بخفيف الرأى بل كان قوى الرأى متزن السريرة لدرجة أنه قد تم تعيينه للمشاركة في جمعية أثينا للتصويت على القرارات المهمة للدولة في عام 406 قبل الميلاد، والتى كان معارضا لمعظم قرارتها. تعددت العنتريات السقراطية فزاد غضب الكثيرين من المنتقدين والحاقدين الذين سعوا للإطاحة به.

ومن العنترية ما قتل

تعمقت عنترية سقراط فى نفوس الناس فأثارت الضغينة فى نفوس الحاقدين، حتى كانت النهاية أمام اصرار سقراط على عنتريته. أمام كل الأحقاد والاختلافات الفكرية التى جعلت منه مؤسسا لعلم الأخلاق والتى انتهت باحاطته بالعديد من المصائب، قال جملته الشهيرة ” الحياة دون ابتلاء لا تستحق العيش”.  وعندما زادت الكيدية وتعمق التلفيق من معظم المنتقدين، كان الأتهام بعدم احترام آلهة أثينا وأيًضا تهمة إفساد الشباب الأثيني. رأى كل تلاميذه ومحبيه أنها اتهامات قاتله ارتدت الثوب السياسى, هذا على الرغم من  أن سقراط  لم يِرد أن يشارك في الحياة السياسية وَتَجّنَب ذلك. ان عنترية سقراط لم تتوقف عند الحدود السالفة الذكر فى ميادين الحرب أو الفحص والدرس أو حتى الرأى والمشورة بل فاقت كل هذا وزاد لمعان نجمهما فتجلت فى قدسية احترام المبدأ حتى لو نال من الذات وهذا ما تلمسه الجميع – وبلا استثناء من اعدائه قبل أحبابه – فى تنفيذه لحكم الاعدام على الرغم من امكانية هروبه من هذا الحكم. سقراط دافع عن نفسه بحماسة أمام هيئة  الُمحلفين ولكن دون جدوى فالحقد قد تغلغت جذوره فى القاع بل وارتفعت أغصانه الى عنان السماء وتساقطت ثماره العطبة ذات الرائحة الكريهة على أرض الموت. وثق سقراط كل أفكاره بكل ما أوتى من قوة بالقول والفعل حتى بالتضحية بحياته، وهذا ما أكده حوار “دفاع سقراط”، فيه يقارن “سقراط” بين ما أبلاه فى خدمته العسكرية وبين معاناته التي واجهها في قاعة المحكمة، فيقول إنه إذا كان هناك في هيئة المحلفين من يعتقد أنه يجب أن ينسحب ويتخلى عن الفلسفة، فينبغي لهذا الشخص أن يفكر أيضًا في أنه لا بد للجنود أن تنسحب من المعركة عندما يبدو لهم أنهم سيُقتلون فيها.

أسس العنترية القاتلة لسقراط

ومن العنترية ما قتل كما حدث مع مؤسس الفلسفة الفكرية “سقراط”، وداخل هذه العنترية القاتلة نجد عنترية أخرى أقوى وأشد قامت على عدة أسباب عقائدية هى كالتالى: أولا- اعتقاده أن فى الهروب خوف من الموت، وهذا الخوف لا وجود له لدى أي فيلسوف حقيقي. ثانيا- اعتقاده أن فى الهرب حكم بالاعدام على كل تعاليمه وأفكاره التى لن تلقى قبولا فى أى مدينة أخرى تأسيسا على أن هروبه سيشكل استياءا لدى من يحاوره لأنه سيكون قد هدم وبيده كل ما أسس له. ثالثا- وجوبية احترامه وخضوعه لقوانين المدينة التى يعيش فيها، مؤدى ذلك أنه يجب عليه الحفاظ على العقد الاجتماعي الذي وقعه مع الدولة الذى ان خرق تسبب فى أضرارا كثيرة للدولة وهذا ما يتنافى مع المبادئ التي ينتهجها سقراط. عنترية سقراطية تقوم على مثاليات تنتمي لعالم لا يستطيع فهمه إلا الإنسان الحكيم من أجل هذا كانت مقولة سقراط “إنّ طبعي قد جعل بحيث لا أكترث سوى بالعقل”.

شارك
نشر المقال:
أ. د. نصرالله محمد دراز - Prof. Dr. N. Deraz