تبعاً للعلم: هل يمكن التنبؤ بالأشخاص الأكثر قدرة على تعلم اللغات الأجنبية؟

لا بد وأننا جميعاً نحس بتلك الحسرة التي تعترينا عندما نرى ذلك الصديق الذي يمكنه التحدث بعشرات اللغات المختلفة بدون بذل أي جهد، ونبدأ بالتفكير في أنفسنا بأشياء مثل “لماذا يمكنه تعلم اللغات بشكل سهل وأنا لا، هذا ليس عدلاً!” حسناً، يبدو بأن هناك بالفعل بعض المزايا الخفية التي يمتلكها هذا الصديق تجعله يتفوق علينا، حيث تبين مؤخراً أن الكيفية التي تتواصل فيها أجزاء دماغنا معاً تؤثر على الطريقة التي نلتقط بها اللغات الجديدة.

أظهرت دراسة حديثة تجري لأول مرة أن الأشخاص الذين يواجهون صعوبة في تعلم لغة جديدة يمكن أن يكونوا يمتلكون عقولاً تتواصل أجزاؤها بطريقة تقلل من قدرتهم على اكتساب المهارات اللغوية اللازمة، وهذا يعني أن الاختلافات الجوهرية في الكيفية التي تتواصل فيها مناطق الدماغ المختلفة مع بعضها تجعل تعلم لغة ثانية سهلاً جداً بالنسبة لبعض الأشخاص البالغين بالمقارنة مع غيرهم.

أصبح بمقدور العلماء الآن استخدام فحوصات الدماغ لتحديد مدى كفاءة وقدرة الشخص على اكتساب اللغات الجديدة، وتبين بأن هذا يرتبط ارتباطاً مباشراً مع قدرة مراكز اللغة في الدماغ على التواصل عندما تكون في حالة من الراحة، والسبب في ذلك هو أن جزءاً كبيراً من عمليات التعلم لدينا تحدث في الواقع عندما نكون في حالة الراحة، ولذلك، ليس من المستغرب أن يكون للنوم أهمية كبيرة سواء على صحتنا أو على عملية التعلم لدينا.

اكتشف العلماء أن عملية تعلم لغة جديدة تكون أسهل بكثير إذا كان هناك درجة عالية من التواصل بين منطقتين من الدماغ، وبشكل أكثر تحديداً عندما يتفاعل الوصاد الأمامي الأيسر بشطل أكبر مع التلفيف الصدغي العلوي الأيسر (وهذا جزء لا يتجزأ من شبكة اللغة في أدمغتنا)، وله انعكاسات قوية على مدى السهولة التي يمكن من خلالها للمرء أن يتعلم لغة جديدة.

الدراسة المذكورة هنا شملت ما مجموعه 15 شخصاً بالغاً من الناطقين باللغة الإنجليزية والذين كانوا على وشك الدخول في دورة لتعلم اللغة الفرنسية ستمتد على فترة 12 أسبوع من التدريب المكثف، وقد تم إجراء مسح دماغي لأولئك المشاركين قبل وبعد الدورة كما تم إجراء اختبار لقدراتهم اللغوية، وقد تبين بأن أولئك الذين كانوا يمتلكون اتصالات أفضل بين مناطق الدماغ المذكورة آنفاً أظهروا درجات أكبر من التحسن في اختبار المحادثة، وهذا يسلط الضوء على الدور الهام الذي يلعبه التواصل بين أجراء الدماغ في اكتساب اللغة.

أنماط إيقاع الدماغ والقدرة على تعلم لغة أجنبية

بالإضافة إلى “الاتصالات” المتأصلة في الدماغ، اتضح مؤخراً في دراسة منفصلة أن أنماط إيقاع الدماغ لدى البالغين يمكن أن تكون مؤشراً جيداً آخر على مدى قدرة الشخص على تعلم لغة جديدة، وهذا القياس لنشاط الدماغ أثناء حالة الاسترخاء لا يستغرق سوى خمس دقائق فقط، أما في هذه الدراسة، فقد أظهر العلماء أن إيقاعات حالة الراحة في الدماغ يمكن تحليلها لاستخراج خصائص ما يقارب من 60% من التباين الذي يؤثر على قدرة البالغين في اكتساب اللغة الثانية، وقد ضمت هذه الدراسة 19 مشاركاً متطوعاً من الأشخاص البالغين الذين تتراوح أعمارهم بين 18و31 سنة والذين لا يمتلكون أي خبرة سابقة في تعلم اللغة الفرنسية، وخلال الدراسة تم إجلاس المتطوعين لمدة خمس دقائق وعيونهم مغمضة، وخلال هذه الفترة الزمنية، تم وضع سماعات رأس مجهزة للتخطيط الدماغي على رؤوسهم، مما مكن العلماء من الحصول على قياسات لأنماط نشاط المخ لدى المشاركين.

على طول فترة الدراسة التي امتدت لثمانية أسابيع، كان المتطوعون يذهبون إلى المختبر مرتين في الأسبوع للمشاركة في دروس اللغة الفرنسية التي كانت تمتد لـ30 دقيقة كل مرة، وكانت هذه الدروس لتعليم اللغات تدار عن طريق الكمبيوتر باستخدام برنامج للواقع الافتراضي تم تمويله من قبل مكتب الولايات المتحدة للبحوث البحرية، ويسعى هذا البرنامج إلى تمكين أفراد الجيش من اكتساب الكفاءة البدائية في اللغات الجديدة خلال 20 ساعة فقط من التدريب، والجدير بالذكر أن هذا البرنامج يعتمد على التقدم الذاتي، ويوفر سلسلة من القصص والمشاهد لتسهيل عملية التعلم، كما تم أيضاً إدخال عنصر التعرف على الأصوات للتحقق من سهولة النطق.

بالإضافة إلى ذلك، قام العلماء بتضمين الدراسة سلسلة من الاختبارات في كل مرحلة من مراحل الدورة، وكان على المشاركين تحقيق الحد الأدنى من الدرجات قبل السماح لهم بالانتقال إلى الدرس التالي، وذلك لضمان تركيز المشاركين على الدروس وكان أيضاً بمثابة دليل على مدى تقدم كل مستخدم خلال المنهج.

بعد الانتهاء من هذا النظام التدريبي، قام المتطوعون بالخضوع لاختبار تقييم كفاءتهم في اللغة الجديدة (وكان هذا الاختبار شاملاً للدورة الدراسية ككل)، وقد أظهرت تسجيلات تخطيط الدماغ أن أنماط النشاط الدماغي المحددة التي تم ربطها بالعمليات المتعلقة باللغة كانت تمتلك الارتباط الأكبر بقدرة المتطوعين على التقاط اللغة الجديدة، وهذا يشير إلى أن هذه الأنماط يمكن أن تمنح بعض الفوائد للذين يريدون تعلم لغة ثانية.

هل “المميزات الدماغية” هي ما يحدد قدرة الشخص على تعلم لغة جديدة فقط؟

في ضوء النتائج الموضحة في هذه المقالة، فمن المهم أن نلاحظ أن الطريقة التي تتواصل أجزاء الدماغ مع بعضها ليست هي الأمر الوحيد الذي يحدد مسبقاً قدرة الشخص على تعلم لغة جديدة بشكل قاطع، فهناك العديد من العوامل الفطرية وكذلك البيئية الأخرى التي تتعلق بهذا الأمر، كالدافع الفردي مثلاً، لذلك، فإن هذا لا يعني أن الأشخاص الذين لا يمتلكون الأنماط الدماغية “المميزة” يجب أن لا يحاولوا تعلم لغة ثانية، ففي الدراسة، لم يشكل هذا النمط سوى 60% من التباين في اكتساب اللغة، وهذا يعني أن هناك عوامل أخرى تلعب أدواراً مهمة في عملية التعلم، ويجب أن تؤخذ في عين الاعتبار أيضاً.

 

شارك
نشر المقال:
فريق التحرير