أطباء .. أم رهائن؟ كيف أصبح الطب أكثر التخصصات بؤساً

هناك طبيب يقف فوق السطح والأفكار السوداء تجول برأسه، آخر يقف على حافة جسر وآخر يجمع كمية من الأدوية المنومة، بينما يفضل آخر وسيلة قاطعة وصاخبة مثل المسدس، ما لا تعرفه أنه بنهاية هذا العام، فإن 300 طبيب تقريباً سيكون قد انتحر، هذا بغض النظر عن الاكتئاب الذي لا يعد شيئاً جديداً في وسط الأطباء، فمهنة الطب تم تسميتها بـ”ثاني أكثر الوظائف انتحاراً” منذ عدة سنوات، هذا يتركنا أمام حقيقة غاية في الوضوح؛ مستوى التعاسة آخذ في التزايد بين الأطباء.

هذا التقرير المترجم عن “الديلي بيست” يتحدث عن وضع الأطباء في الولايات المتحدة، الممارسين العامين وأطباء الرعاية الأولية على وجه الخصوص، لكنه يلامس كل مشاكل الأطباء في باقي أنحاء العالم، فهي مماثلة، إن لم تكن أسوأ، إذ إن الطب أصبح ببساطة أكثر التخصصات بؤساً ومهانة، الكثير من الأطباء يشعرون أن أمريكا أعلنت الحرب على الأطباء، والطبيب والمريض كلاهما خاسر.

كيف أعلن العالم الحرب على الاطباء؟

الكثير من الأطباء يتركون المهنة الآن، هذا يتجلى بشكل مصغر في موقع Drop-Out-Club الذي يجمع الأطباء الفارين من الطب ويبحثون عن مهنة أخرى، والذي ازداد عدد أعضائه بمقدار الضعف في خلال سنة ونصف فقط، بينما تشير الإحصائيات إلى أن 9 من كل عشر أطباء لا يشجعون من يسألهم عن دخول كلية الطب، وأن طموح معظم طلبة الكلية الآن لتخصصات تدر الكثير من المال، لكي يتقاعدوا بأسرع وقت ممكن.

من الصعب على أي شخص من خارج التخصص أن يفهم مدى التعفن الذي وصلت إليه من الداخل، والمشكلة إنه يخل بنظام الرعاية الصحية، لهذا ظهرت أصوات تنادي بضرورة إفهام المرضى وضع الطبيب، لإصلاح الأزمة الصحية الكبيرة، وإصلاح وضع المريض بالتالي.

أن تكون طبيب رعاية أساسية ليس مثل تخصص الجراحة التجميلية مثلاً، وهو التخصص الذي يمنح حامله الاحترام ومدخرات التقاعد الجيدة، فطبيب الرعاية الأساسية يتحمل  ما لا يريد الأطباء الآخرون القيام به، أشبه بأن تكون “بوّاباً”، تحيل المريض إلى التخصصات الأخرى أو تصرفه، لكن، بدون وضع اجتماعي جيد أو حماية نقابية.

الأمور تزداد سوئاً بالنسبة للأطباء، خاصة بالنسبة لأولئك الذين ما يزالون يقبلون بالتأمين الصحي، لأن الأوراق والاستمارات تقتطع حوالي 58 دولاراً من مقابل الكشف على كل مريض، حسبما قال الدكتور ستيفن شيمبف الطبيب الباطني والمدير التنفيذي السابق للمركز الطبي التابع لجامعة ميريلاند، والذي يقوم حالياً بتأليف كتاب عن أزمة الرعاية الصحية الأساسية في أمريكا، النتيجة أن الأطباء يحاولون زيادة عدد مرضاهم، ما يضغط وقت الكشف الواحد إلى 12 دقيقة فقط، وهو الشئ الذي لا يرضي الأطباء ولا المرضى، زيادة تعقيدات التأمين الصحي جعلت الصحفي الشهير مالكوم جلادويل يعلّق على الأمر قائلاً: ” أنت لا تدرب شخصاً لكل هذا في الطب، للقيام بمتطلبات شركات التأمين”،وهو ما دفع الكثير من الأطباء للتوقف عن الممارسة العملية والاتجاه للعمل كموظفين، لكن حتى هذا لا يعطي المرضى وقتاً كافياً، حيث يجد طبيب الرعاية الأولية نفسه مرغماً على تحمل 24 مريضاً في اليوم، كل واحد منهم لديه عشر مشاكل طبية أو أكثر.

كنتيجة لهذا، أصبح الأطباء في عجلة من أمرهم، لم يعد لديهم وقت للاستماع، كما إن التحويل للمتخصصين ازداد في النسبة، بالرغم من وجود كثير من المشاكل قابلة للحل لدى طبيب الرعاية الأساسية، هذا غير اعتماد الأطباء على المبادئ التوجيهية المحفوظة وتطبيقها بدون النظر لكل حالة طبية بشكل خصوصي ومتفرد، بسبب ضيق الوقت.

ماذا حدث عندما طبقنا نظرية “الزبون دائماً على حق”؟

المستثمرون في هذا المجال يركزون على رضا المريض، والدرجات التي يمنحها، لكن التحول من “معالجة المريض” إلى “محاولة إرضاء المريض”، تأتي بنتائج سيئة وتكاليف أعلى، فالطبيب يجد أنه مضطر للنزول على رغبات المريض سواء كانت مخدرات أو أشعة سينية وفحوصات لا داعي لها، والآن، بعد أن أصبحت الرواتب والعوائد الطبية مرتبطة برضا المريض، فإن المشكلة تصبح أسوأ. على الأطباء أن يمتلكوا القدرة على قول “لا” في الوقت المناسب، وإلا فإن المرضى عندما يذهبون للعيادة، فإنه لن يكون لديهم طبيب، وإنما يكون لديهم “رهينة”.

أطباء .. أم رهائن؟

الحقيقة إن طبيب الرعاية الأولية لا يملك قول “لا” على أي شئ، القائمة تطول بشكل كبير، وتتراكم على طاولة الطبيب منتظرة توقيعه، أكوام من نتائج المختبر، ورسائل البريد الإلكتروني، ورسائل التذكير التي تظهر على شاشة الكمبيوتر، الاتصالات تنهال على الطبيب للتعاون مع شركات التأمين، وكل قرار يحمل خطورة المقاضاة بسبب مزاعم الإهمال الطبي، وسوء الممارسة.

الشئ المثير للسخرية أن حل هيئات الإشراف على الأطباء، كان أن نادت بمزيد من الامتحانات للأطباء، المجلس الأمريكي للطب الباطني مثلاً، قرر أن يقوم بـ”أخذ الرهائن” على طريقته، عندما قرر أن يضيف للامتحان الذي يجري كل 10 سنوات، امتحانات أخرى مكلفة كل سنتين، يشهّر بالأطباء الذين لم يمتحنوها على موقعه، ويسمهم بـ”عدم الالتزام”.

الفكرة أننا أصبحنا في عصر أصبحت فيه الممرضات ومساعدي الأطباء قادرين على تقديم خدمة رعاية أساسية جيدة، و المبادئ التوجيهية توجد على كل هاتف ذكي، وفي كل يد، في ظل كل هذا، لا معنى لمزيد من القيود والصعوبات على الأطباء، من المفهوم في هذه الحالة أن الأطباء الشباب أصبحوا يهربون من الرعاية الأساسية.

الأطباء .. وسادة الملاكمة الحاضرة

التغطية الصحفية السلبية للأطباء تساهم بالتأكيد في اتجاه لومهم على كل ما ليس لهم فيه ذنب، بدئاً من الأثاث في المستشفى غير المناسب للجالسين على الكراسي المتحركة، وغير نهاية بتكاليف مسحات عنق الرحم، الكاريكاتيرات تكثف الضغط على الأطباء من السياسيين، الذين يضعون المزيد من القوانين والقيود، الكثير من ذوي النوايا الحسنة عقدوا المشكلة أكثر بدل حلها، ربما يبدو من الصعب أن نطلب التعاطف مع الطبيب، وربما معظم الناس لا تهمهم حياة الأطباء،  لكن، من المهم لهم بالتأكيد الرعاية الصحية المتردية، لن يلوموا سوى أنفسهم عندما يعجزون عن إيجاد طبيب يعطي الدواء المناسب.