التصنيفات: أخبار العلوم

هل تمكن العلم التجريبي من تحديد مكان “العقل الباطن” تشريحيا ؟

إذا سألت فيزيائيا عن تعريف للطاقة، سيقول لك بأنه يصعب الإتيان بتعريف جامع مختصر لها، وإذا سألت بيولوجيا عن معنى الحياة، سيجيب بنفس الإجابة غالبا، أما إذا سألت عالم نفس عن الوعي واللا وعي، ستجد إجابات واثقة من البعض ومبعثرة من البعض الآخر، وربما أجابك أحدهم إجابة مراوغة، فقد يجزم بوجود الوعي، وأن منشأه في الدماغ، لكنه سيعترف بأنه لا يزال لغزا محيرا، أما اللا وعي فقد تكون الإجابة بأنه هو كل ما ليس وعيا. 

هناك خلاف في طرق البحث بين العلوم التجريبية والإنسانية، فالحديث عن العقل الباطن أو اللا وعي في العلوم الإنسانية والاجتماعية، يبدو وكأنه حقيقة ثابتة ! . فمن مدرسة التحليل النفسي عند فرويد ويونج وحتى الأبحاث التسويقية عند “جاك تراويت” و”آل رايس”، مرورا بعمل “دانيال كانيمان” ونشأة علم الاقتصاد السلوكي، وكتابه (التفكير بسرعة وببطء)، ستجد إسرافا كبيرا في الحديث عن ذلك الشيء الخفي، الذي يتحكم في قرارات الإنسان وسلوكياته، وجاءت تلك الدراسات باعتبار أثر اللا وعي المُشاهد والملاحظ في السلوك. 

كثيرة تلك الكتب والمحاضرات والمقالات التي تناقش وتدعو لاكتشاف سحر العقل الباطن، وللتعرف على قوانينه، والحث على برمجته برمجة إيجابية. ويعزو بعض الكتاب والمحفزين كلامهم إلى أبحاث ودراسات ومعاهد ومراكز علمية.

لكن الحقيقة أن العلم التجريبي – سواء في علوم الأعصاب أو البيولوجي – لا يعترف بشيء يسمى بالعقل الباطن أو اللا واعي.

الطبيعة الثنائية للإنسان Dualism

   الطبيعة الثنائية للإنسان Dualism سواء عند ديكارت أو غيره، أو حتى في تصور الأديان، يمكن تلخيصها في الاعتقاد بأن هناك مكونا غير مادي في الإنسان، سواء اتفق على أنه هو العقل أو الروح أو النفس. لكن العلم القائم على الرصد والتجريب والإحصاء، يعتبر هذه المفاهيم ليست قابلة للاختبار، أو هي خارج موضوع العلم التجريبي، ويعدونها مفاهيم ميتافيزيقية، بغض النظر عن الإيمان بها من عدمه، فقد تجد علماء مؤمنين بالغيبيات، لكنهم يعتقدون بأنه لا مجال لدراستها في المختبرات ومراكز الأبحاث.

المنهج الاختزالي

  يعد المنهج الاختزالي الذي لا يعترف إلا بالمادة، أكثر شيوعا في المجتمع العلمي، بل هناك من هم أكثر تطرفا في ماديتهم Materialism من الذين يرفضون بشدة إقحام أية مفاهيم غير مادية، إما لموقف إلحادي أو لا أدري وإما لقناعتهم بأن ذلك يضر بمناهج البحث العلمي، ويعطي مجالا للعلوم الزائفة بأن تنشر أفكارا وفلسفات وفرضيات، لا دليل عليها.

لكن ميادين علم النفس الرحبة تتقاطع وتتسع، ولأنه علم لا يزال يحبو – إذا ما قورن بعلوم كالكمياء والفيزياء – لذلك تكثر فيه الاجتهادات والممارسات، ولأن الصحة النفسية مصطلح يكتنفه الكثير من الغموض، في الوقت الذي تكون الحاجة ماسة لها، لأنها تلمس الفرد والأسرة والمجتمع والمؤسسات والتعليم والإعلام والثقافة وسائر أنشطة البشر. 

قوة عقلك الباطن     

     يعد كتاب جوزيف ميرفي (قوة عقلك الباطن)، محطة هامة ألهمت الكثيرين المعنيين بالتحفيز وتطوير الذات، لكن طرح ميرفي وغيره أشبه بالمقاربات الفلسفية والوعظ الديني، وجاء وكأنه ردة فعل على التصور الفرويدي للعقل الباطن أو اللا شعور، الذى جعله مخزنا للمآسي والآلام. ومن المؤكد أن ميرفي لم يدرك الثورة التقنية التي طورت وسائل التشخيص والتصوير ويبدو غريبا في تناول البعض عند الحديث عن اللا وعي، ما يذكرونه من أرقام ونسب مئوية، فعندما تجد من يقول بأن 95% من قراراتنا وسلوكياتنا تعتمد على العقل الباطن، أو أن العقل اللا واعي مسؤول عن صنع قراراتنا من قبل أن يدركها العقل الواعي ب 7 ثوانٍ ! وأن سرعة العقل اللا واعي 40 مليون بت / الثانية ! .. وهنا علينا أن نتساءل: كيف تم حساب تلك الأرقام بهذه الدقة، مع علمنا – كما بينا – أن العلم لم يحدد بعد مكان هذا اللا وعي ؟ وهل يمكن لتجارب محدودة – لا يخضع أغلبها لقواعد البحث العلمي – أن نعمم نتائجها على أنها حقائق ؟ 

وهناك مشكلة أخرى تتعلق بالترجمة، عندما يتعامل غير المختص مع بحث منشور، فقد يضفي عليه صبغة أدبية جذابة، لكنها قد تحرف مضمون هذا البحث، كما تحدث مغالطة منطقية شهيرة، عندما ننقل كلاما لشخصية علمية مرموقة، ليتم تمريره بدون الانتباه لصحته من عدمه. فعندما يتحدث بيولوجي ومتخصص في الجينات مثل “بروس ليبتون” صاحب كتاب (بيولوجيا المعتقد) وغيره، فلا يعني أن أي كلام يصرح به، هو بالضرورة منضبط بقواعد ومنهج البحث العلمي. خاصة عندما يتكلم في غير تخصصه.

وعندما يقول بأن العقل اللا واعي أشبه بكمبيوتر ضخم يحوي معلومات وبيانات مخرنة وسلوكيات مبرمجة تم اكتسابها في السنوات الأولى من حياتنا. وعندما يقول في كتابه بيولوجيا المعتقد: “عواطفنا هي لغة عقولنا الباطنةSubconscious minds ، وهي تؤثر على خلايانا بطرق بدأنا للتو في فهمها … وتأثير الدواء الوهمي placebo هو مثال على ذلك! “. فمع قبولنا لنبل رسالته واتفاق جل الباحثين في علم النفس على خطورة البرمجة اللا واعية، لكن كلامه هنا أشبه بالميتافيزيقا، وليس له علاقة بالمختبرات ولا التجريب. 

لدينا عقلان ومخ واحد: 

ليس من المنطقي أبدا أن نهمل عمل علماء الأعصاب، الذين بذلوا جهودا كبيرة في تشريح وفهم فسيولوجيا المخ، وأشارت أبحاثهم إلى ما يمكن وصفه بعقلين داخل المخ، الأول: العقل المنطقي Rational mind والقشرة المخية Cerebral cortex هي مركزه. والثاني: العقل الانفعالي Emotional mind ومركزه في الجهاز الحوفي Limbic system  ، ويشير دكتور عمرو شريف في كتابه (المخ ذكر أم أنثى) إلى أبحاث عالم الأعصاب جوزيف لو دو الذي اكتشف الدور الرئيسي للجسم اللوزي Amygdala  وكيف يتحكم في مشاعرنا وانفعالاتنا قبل أن يتخذ العقل الواعي المفكر الموجود في القشرة المخية قرارا ما. واكتشاف لو دو لحزمة صغيرة تتجه من المهاد للأميجدالا يسمح للإنسان بالقيام باستجابة سريعة تختصر الوقت بمقدار ضئيل يصل إلى أجزاء من الألف من الثانية.

وبالنظر والتفكر في ما اكتشفه علماء الأعصاب، نجد بداية التفسيرات المستندة للتجريب والبحث العلمي، تقرب لنا الغامض والمجهول.

المصادر:

قوة عقلك الباطن، جوزيف ميرفي.

المخ ذكر أم أنثى، عمرو شريف ونبيل كامل.

بيولوجيا المعتقد (The Biology of Belief)، بروس ليبتون.

(التفكير بسرعة وببطء)، دانيال كانيمان.

شارك
نشر المقال:
وسيم الهلالي