علم النفس

هل تحدد جيناتنا قدرتنا على التعاطف مسبقاً؟

في هذا العالم المتناقض، أصبح هناك اهتمام متزايد في زراع صفة التعاطف لدى السكان- بدءاً من مرحلة ما قبل المدرسة وحتى ضباط الشرطة- ويعود هذا لسبب وجيه، حيث تشير الدراسات إلى أن التعاطف، وإلى جانب جعله للعالم مكاناً أفضل للعيش، يساهم أيضاً في علاقاتنا وفي نجاح حياتنا المهنية.

ولكن من أين يأتي التعاطف؟ هل يتم اكتسابه من الآباء والأمهات والمعلمين والمجتمع؟ أم أنه سمة شخصية فطرية تحددها مورثاتنا؟

قدمت دراسة حديثة، أجرتها (مارتن ميلتشير) من جامعة بون، و(إليزابيث هان) من جامعة سارلاند، ومجموعة من زملائهما، ونشرت في مجلة (Motivation and Emotion)، وكانت تسعى للإجابة على هذه الأسئلة باستخدام وسائل متعددة لقياس التعاطف لدى 742 توأماً وأشقاء بالغين، بعض الرؤى الجديدة في أصول التعاطف.

كانت الدراسات السابقة التي أجريت حول هذا الموضوع قد قدمت نتائج متباينة، حيث أن تقديرات توريث التعاطف كانت تتراوح من 0% إلى 70%، وهذا يتوقف على المشاركين في التجارب والأساليب المستخدمة، فإذا كانت تقديرات السمة من الناحية الوراثية تساوي 0%، فإن هذا يعني أن الاختلاف في هذه الصفة يعود لسبب وحيد وهو وجود اختلافات بيئية – تأثير ما يسمى بـ “التنشئة”- أما إذا كانت تقديرات السمة من الناحية الوراثية تصل إلى نسبة 100%، فإن هذا يعني أن كل الخلافات التي تمت ملاحظتها في هذه الصفة عبر مجموعة من السكان يمكن أن تعزى للاختلافات الجينية.

وجدت الدراسات الرصدية التي تم إجراؤها على أطفال صغار جداً بأن التقديرات الوراثية في الصفات كانت منخفضة جداً، وأن هذه التقديرات كانت تتراوح اعتماداً على سن الطفل، أما الدراسات التي تضمنت أشخاصاً بالغين، والتي اعتمدت في الغالب على المعلومات التي أعطاها المشاركون أنفسهم عن مستويات التعاطف لديهم، فقد أظهرت نتائج متباينة على نحو مماثل، مع تقديرات التوارثية للتعاطف تتراوح ما بين الـ 28-72%.

كانت الدراسة التي تم إجراؤها من قبل (ميلتشر) و(هان) وزملاؤهما أول دراسة تعالج مشكلة مدى دقة تصنيف المشاركين لمستوى التعاطف لديهم بأنفسهم، وذلك من خلال الجمع بين الاستطلاعات التي تم فيها أخذ المعلومات من الأشخاص أنفسهم مع نتائج اختبار التعاطف السلوكي الذي أجراه الباحثون عليهم، وبشكل خاص، بحث العلماء عن فرعين وراثيين مختلفتين من التعاطف: التعاطف الوجداني، أو قدرة الشخص على أن يشعر بما يشعر به الآخرون، والتعاطف المعرفي، أو قدرة الشخص على فهم مشاعر ومنطق الأشخاص الآخرين.

للقيام بذلك، قامت (ميلتشير) وزملاؤها بمقارنة أوجه التشابه في مستويات التعاطف بين التوائم، الذين يمتلكون تقريباً صفات وراثية متطابقة، والمستويات العاطفية بين التوائم وغيرهم من الأشقاء، الذين من المتوقع أن يكونوا متشاركين في نحو نصف الصفات الجينية، وبهذه الطريقة، تمكن الباحثون من تحديد مدى الفروق الفردية التي من المحتمل أن يكون سببها العوامل الجينية الموروثة وليس البيئة فيما يخص صفة التعاطف.

لقياس مستويات التعاطف الوجدانية والمعرفية لدى المشاركين، طلب الباحثون منهم الإجابة على استبيان وقاموا بأخذ قراءات لعقولهم باستخدام اختبار العيون الذي يقيس القدرة على التعرف على مشاعر من الوجوه، وبناء على نتائج هذه الاختبارات، وجدت (ميلشر) والزملاؤها بأن تقديرات التعاطف الوجداني من الناحية الوراثية كانت تتراوح ما بين 52-57%، في حين أن كانت تقديرات التعاطف المعرفي أقل من الناحية الوراثة – حيث وصلت لحوالي 27%- وهذا يعني أن هذا النوع من التعاطف يتأثر أكثر بالعوامل البيئية والخبرات التعلمية.

تبعاً للمؤلفين، فإن هذه النتائج يمكن أن تكون مفيدة لبرامج التدريب التعاطفي، مثل تلك التي يتم إعطاؤها للأشخاص الذين يعانون من مرض التوحد، وللمرضى الذين يعانون من مشاكل سلوكية، ولمنع حدوث التنمر في المدارس.

بحسب الباحثين، فغالباً ما تحاول هذه التدريبات تعزيز قدرة المشاركين على تبني وجهات نظر الآخرين، على أساس فكرة أن تنمية قدرات أفضل في هذا المجال قد يؤدي إلى زيادة قدرة الشخص على التعاطف مع القلق وعلى التعاطف الوجداني، ولكن الخلافات في نسب النجاح في هذا التدريب قد تُرجع عادة في جزء منها إلى النسبة التي ورثها الشخص من القدرة على التعاطف الوجداني – لأن بعض الأشخاص قد لا يكونون مهيئين وراثياً ليستطيعوا الشعور بمشاعر الآخرين حتى قبل البدء بمثل هذا البرنامج.

على الرغم من هذا، فإن هناك بعض المآخذ على هذه الدراسة، فمن جهة، فإنها لم تخبرنا عن دور الجنس في توريث التعاطف، حيث أن الدراسات السابقة كانت قد وجدت دليلاً على وجود فروق بين الجنسين، بما في ذلك اختلاف الشبكات العصبية التي يتم تفعيلها عن طريق التعاطف، ومن جهة أخرى، فإن الدراسة لم تخبرنا أيضاً عن الكيفية التي يمكن فيها للقياسات الوراثية للتعاطف أن تتأثر بالضبط بالسن – فقد وجدت الدراسات السابقة أن وراثة الصفات الأخرى، مثل القدرة المعرفية، ظهرت بقوة أكبر لدى الأشخاص من كبار السن- لذلك فنحن بحاجة لدراسات مستقبلية تقيس مدى تأثير التوريث على الصفة التعاطفية لدى الشخص لتساعدنا في الإجابة على هذه الأسئلة المفتوحة.

 

شارك
نشر المقال:
فريق التحرير