الذكاء الاصطناعي

موت الإنسان .. هل ينعي الذكاء الصناعي الانسان كما نعرفه؟

ضجّ العالم قبل أقل من نصف سنة حين أعلنت شركة »أوبن إيه آي« عن إطلاق روبوت المحادثة الخاص بها »شات جي بي تي«. وهو بالمختصر المفيد: برنامج يعمل بالذكاء الاصطناعي بإمكانه محاورة المستخدم وتقديم المعلومات التي يطلبها منه، مع تذكر المحادثات السابقة؛ أي أنه يمنحك أجوبة متصلة بمحادثاتك السابقة معه، وهذا هو الجديد الذي يميّز شات جي بي تي عن غيره من البرامج الذكية الأخرى القديمة التي يمكن أن يحاورها المستخدم.

الأمر الجديد الآخر في شات جي بي تي والذي جعل العالم يقف على قدمٍ واحدة، هو أنه فعّال بدرجة مخيفة، تسأله أي سؤال تريده فيجيبك، تطلب منه أن يكتب أكواد برمجة برنامج معين فيكتبها لك، ترجوه أن يكتب مقالاً أو قصة فيزوّدك بنصٍ خالٍ من الأخطاء اللغوية والنحوية وبالعربية. هو حرفياً يزوّدك بكل ما تطلبه، وبجودة عالية جداً.

الآلة تخلق الآلة تميت

لا شك أنه كغيره من مخرجات الآلة ما زال يعج بالمشاكل ويقدم كثيراً من الأوقات أجوبة غير منطقية أو كما تُسمّى »الهلوسة« أي التخبط والتنافر بين ما سألتَ، وما قدمه لك الذكاء الاصطناعي. لكن قبل أسبوع تقريباً أُعلن عن نسخة جديدةٍ محدثةٍ من البرنامج: شات جي بي تي 4، المثير للإعجاب هو مدى التطوّر ما بين هذه النسخة وما قبلها في وقت قصير جداً، هو تطورٌ سريع مخيف يجعلني أفكر في المرحلة التي سيصل إليها الذكاء الاصطناعي وما هي تبعاتها.

بعض المشاكل التي خلقها الذكاء الاصطناعي وله أن يجد حلاً لها بسبب ذكائه، هي استخدام الطلبة أو الباحثين للذكاء الاصطناعي في كتابة المقالات والبحوث العلمية، وبالفعل فقد قامت ذات الشركة بتطوير برنامج آخر لكي يميّز ما إذا كان النص من كتابة الإنسان أم الآلة، وشركات أخرى أيضاً تحاول العمل على ذلك مما قد يُطمئننا قليلاً.

مشاعر الآلة الإنسانية

يقول الكاتب أوغوز أتاي في روايته »العاجزون عن التشبّث«: ’’نخاف، نخاف من الحب والتفكير. إننا نصنع عوضاً عن البشر حشداً من الدمى. وإن كسيناهم صبغة البشر، خاف من أن نرأف بهم ونشفق عليهم.‘‘

الكثير من الأخبار السخيفة التي سمعتها عن رجل تزوّج بدمية أو بمخدة! أو حتى بسيّارة!، أو فتاة قرّرت الارتباط بما لا يمكنك تخيّله، هذا القرار خاصٌ بهم نابعٌ من قراراتهم إن كانوا »صادقين«. لكن ماذا عن الآلة التي يمكن أن تدفعنا دفعاً إلى تصديق مشاعر وعاطفةٍ إنسانية بحتة، آلة تلبس صبغة الإنسان، تحكي مثله، تهمس كما يهمس، تدغدغ حسّك كما تفعل جملة رومانسيةٌ تقولها زوجتك أو خطيبتك أو حبيبتك.

يعمل الذكاء الاصطناعي ويتعلّم بما قُدِّمَ له من معلومات »داتا« يشرّحها ويحلّلها ويبني مثلها. يُزَود بملايين المقالات مثلاً حتى يتمكن من الكتابة مثلها. أي ردود أو تفاعلٍ من البشر مع الآلة يجعل الآلة تطور نفسها في ذات الجانب، لا حدود للبشر وأفكارهم، فلا حدود للآلة وأفكارها. وحتى وإن أردنا غض النظر عما إذا كانت الاستفادة من بعض خصائص البرنامج عمل أخلاقي أم لا، إذ يمكن مناقشته، ما الذي يمنع الإنسان من تجاوز هذا الأمر ورميه بعرض الحائط، وخصوصاً في المجال التجاري الذي يسيّر العملية فيه المال، والمال فحسب.

الكارثة غير ذلك

الحقيقة أن الآلة شبيهة بالإنسان: يتعلم مما يرى، لكن نتاجاً مثل الكتابة، والتأليف الموسيقي، والعمل الفني، والبحوث والأدب مثلاً، يُعتبر نتاجاً بشرياً »إبداعياً«، يميّزه أنه إبداعي، أي: من خلق الإنسان، هذا المخلوق المنزّه الذي يملك القدرة على التأمل والتفكّر فيما حوله ثم الابتكار، صحيح أن الآلة لا تنسخ، لكنها تمنحك الجديدَ المقلَّدَ المرهون تماماً بما زُوِّدت به، أما إبداع الإنسان فمنفصلٌ عمّا تعلّمه؛ بإمكانه ابتكار وإبداع وخلق الجديد الكلّي.

إن لم تلحظِ المشكلة بعد يا عزيزي القارئ فهأنذا أضع إصبعي على المشكلة حتى تراها بوضوح: إنها الإنسان الذي امتدحناه سويةً قبل قليل، المشكلة بأن الإنسان على مر التاريخ كان كائناً كسولاً طمّاعاً يلهث وراء الربح المادي؛ يُرجّح استمرارية الآلة وسرعتها، على الإنسان وأخطائه وتكلفته العالية.

نعم الثورة الصناعية التي كانت خيراً على البشرية باعتمادها الآلة لم تنحّ الإنسان أثناء العمليات الإبداعية التي تحتاج لرأسه المبهر، لكن طمع الإنسان الآن سيرى هذه الآلة »تؤدي الغرض« بشكلٍ لا بأس به؛ سيجعله يرجّحها مستغنياً عن الإنسان وإبداعه.

إعلان موت الإنسان

لستُ متخوفاً من أن أفقد وظيفتي ككاتبٍ مثلاً، فربما لا أكون على هذه الأرض حين تُصبح الآلة مسيطرةً على هذا المجال، الموضوع أعمق من انقراض هكذا وظائف، فالآلة أيضاً تخلق وظائف جديدة معها وشاهدنا الإنسان يتكيّف مع تلك الوظائف على مر العصور.

ابتسمتُ لأحد الباعة الذين سألتهم عن حسابي، فأخرج الحاسبة وكتب 10+6+4 وقال حسابك 20، قلتُ له لا يحتاج الأمر لحاسبة وخرجتُ مبتسماً، ثم بعد برهة تعجّبت منتبهاً لعمق الكارثة: إنَّ اعتماد الإنسان على الآلة يُضعف من قدراته وإمكانيّاته العقلية والجسدية بالطبع. يشبه الأمر انقراض بعض الحرف اليدوية التي لم يبقَ على هذا الوجود من يُجيدها؛ قامت الآلة مقام يد الإنسان وقدَمه وساعِدِه.

من المثير أن نجد بعد سنواتٍ طويلةٍ آلةً على غرار جهاز السير الكهربائي الذي أوجده الإنسان بسبب زيادة وزنه بعد أن بدأ بممارسة أعمال لا تحتاج لجهد بدني، آلةً تمرّن عقل الإنسان لأنه لم يعد يمارس أعمالاً تحتاج إلى جهدٍ عقليٍ؛ فخفّ عقله. وإن سألتني ما الذي يبقَ من الإنسان إن خَفَّ عقله وبدأت مهاراته العقلية التفكيرية والإبداعية تنطفي شيءاً فشيءاً مع مرور السنوات بعد أن تقوم الآلة مقام رأسه، فسأقول لك لن يبقَ إنسان، حينها -كما أعلن نيتشه- سنُعلن: لقد مات الإنسان.

شارك
نشر المقال:
عمير الأحمر