سلسلة عمران

من مكة إلى لاس فيغاس.. كيف غيّرت فنادق مكّة مفهومنا عن الحج؟

تعالوا نحدثكم عن مكة و الحرم المكي لكن قبلها لماذا لا نتوقف عندما تحدّث المُفكر البوسنوي علي عزّت بيغوفيتش عن المُدن السوفيتية، قال إنها تنفث في الأفق لونًا رماديًا متصلاً، وتبعث على الشعور بالملل والرتابة وأكد أنه ليس هناك تفسير لهذا “القُبح” إلا عدم الإيمان بأن هناك روح للإنسان، وبالتالي فإن هذا “الكُفر” قد ساهم في “غياب روح المُدن” وعندما تحدث رائد عمارة الفقراء حسن فتحي عن البناء اعتبر أن “كل حجر يوضع على حجر وكل طوبة توضع على طوبة اليوم سيكون له أثره في إرساء معالم شخصية مجمعنا المعاصر وتحديد ملامحه الثقافية لمئات السنين، أو في طمسها وتشويه سحنة الجماعة والبلاد لا سمح الله” فإنه كان يستبق ما سيحدثنا عنه د.علي عبدالرؤوف في كتابه “من مكّة إلى لاس فيغاس” حيث يكشف لنا كيف تساهم المشاريع “العُمرانية” حول الحرم المكي بتشويه تجربتنا الروحانيّة في الحج والعمرة.

هذا المقال ضمن سلسلة عمران – التي تربط بين العلوم وفلسفتها 

هل هناك علاقة بين العمارة وروحانيّاتنا؟

في تأملاتنا للمباني من حولنا، قد ننسى أن للمبنى وظائف أعمق وأشمل من أن تنحصر في البُعد المادي، بل ندها تلعب دورًا في تشكيل عوالمنا النفسية وعلاقتنا الاجتماعية بل وحتى مشاعرنا الروحانيّة، وهو ما يؤكده د.علي عبدالرؤوف في كُل صفحة من صفحات الكتاب، وبالذات مسألة ارتباط العمارة بالقداسة بل ويدعونا لتأمل مباني مثل قبّة الصخرة في القُدس ودير سانت كاترين في شبه جزيرة سيناء أو مسجد قرية القُرنة الذي صممه المعماري حسن فتحي ولا ينسى أن يدعونا لتأمل البُنية التشكيلية للكعبة المشرفة ذاتها، وهي ما يسميه “المُكعب النقي” فهذه العمائر كُلها ليست عشوائية ولكل منها حكاية مع القداسة.

وفي هذا يقول: “..النطاقات المعمارية والعُمرانية العظيمة هي التي تؤثر في الإنسان تأثيرًا فريدًا وتدمجه في تجارب حسيّة وبصريّة وإدراكيّة متمايزة. فعلى المستوى العُمراني، فإن الشارع الناجح أو الميدان المتميز هو الذي يساعد المشاة ويشجعهم على التداخل والتفاعل الإنساني وخلق مستوى جديد من العلاقات والتآلف. كذلك فإن بعض الفراغات المعمارية أو العمرانية تدعوك إلى التأمل والسكينة والبحث في عُمق ذاتك، وتدفعك إلى تساؤلات عن حياتك ووجودك، وهذه هي الفراغات الروحانيّة. وهذه القُدرة ليس دائمًا صفة للمبنى العملاق الثري، ولكنها نوعيّة، أو صفة يُمكن أن تتجسد أحيانًا في مبان بسيطة ومتواضعة.”

ويقف عند فكرة الحجم على حساب النوع، فيقول: “..فمن الجائز جدًا أن يكون تصميم المسجد أو الكنيسة ناجحًا في استيعاب المصلين والمتعبدين، ولكن لن يدخلهم نفسيًا وحسيًا في الأجواء الروحانية الملائمة لشعائرهم وطقوسهم. فالمتوقع في المباني الدينية أن المتلقي (المتعبد) يتطلع إلى تجربة تتم من خلال الطقوس والتأمل والصلاة، تساعده على الانتقال إلى ما وراء المادي والحسي واستشرف العوالم الروحانية السماوية..”

البلدوزرات.. ومحو الماضي

وبالانتقال إلى مكّة والمسجد الحرام، سنجد أن السلطات السعودية هدمت البسيط والمتواضع والفطري والأثري والتاريخي، وأقمنا بدلًا من هذا كله الضخم العملاق المتوحش وحاصرت الكعبة مما جعل حجمها هو الأكثر ضآلة، بل تكاد تتلاشى كمقياس أمام طوفان المشروعات العملاقة التي تمت تحت شعار “البُرج هو الحل”، وخلال هذه العمليات لم تكتف ببناء أي أبراج ضخمة وعملاقة، بل نجد أن أبراج البيت أكبر بكثير من أكبر مبنيين على الإطلاق في الولايات المتحدة الأمريكية.. كما أن هذه الأبراج تُذكرنا بناطحات السحاب في شيكاجو ولاس فيغاس وساعة (بيغ بين) الشهيرة في لندن والأنكى أن كل هذا تم على حساب مباني تاريخيّة عريقة.

هذا المقال من ضمن سلسلة عُمران

الهندسة والاستحمار … عندما نفصل الفكر عن الهندسة

الجفت.. وقود من بلاد الزعتر والزيتون

كيف يُمكن لمشروع هندسي أن يُساهم في توحيد الأمّة؟ الخط الحديدي الحجازي نموذجًا!

كيف للعلم أن يُدمرنا؟ تأملات في الفِكر والهندسة!

من مكة إلى لاس فيغاس.. كيف غيّرت فنادق مكّة مفهومنا عن الحج؟

المقاومة بالطاقة الشمسية.. كيف يُمكن للشمس أن تتحول لوسيلة صمود؟

من موسيقى الماتورات إلى أوقاف التقنية والعلوم.. تأملات “سيد دسوقي” في الهندسة والقرآن!

ومن أبرز عمليّات الهدم التي أثارت ضجّة عالمية ويتكرر ذكرها في الكتاب هي عملية هدم قلعة أجياد في بداية شهر يناير من عام 2002م. فقد كانت على تلال البلبل المُطلة على المسجد الحرام، وذلك لبناء مشروع استثماري مكان القلعة التي يعود تاريخ بنائها إلى عام 1780م وكانت بمثابة رمزًا للجهود العثمانية في حماية الحرم المبكي من بعض القبائل المتمردة. وقد تم الهدم بسرعة وبشكل مفاجئ وأدى إلى أزمة دبلوماسية بين السعودية وتركيا، وصل الأمر إلى تشبيه الأتراك لهذا التصرف بأنه مثل هدم طالبان لتماثيل بوذا في أفغانستان.

عمليّات الهدم لم تتوقع على الآثار “العثمانية” بل طالت كُل شيء تقريبًا، مثل هدم “بيت المولد النبوي” وهدم بيت السيدة خديجة، أم المؤمنين، واستبداله بمراحيض عامة وبيت أبي بكر الصديق في سبيل إقامة فندق هيلتون أيضًا..بالإضافة إلى كل هذا فإن الكثير من بيوت العائلات المكيّة قد هُدمت بشكل فظ وغليط جعل بعض الباحثين مثل “عنقاوي” يصفه بأنه عمليّة تطهير لمكّة من أهل مكّة.

 

هل كان هنالك “مفر” من هذا “العنف العمراني”؟

في نهايات السبعينيات وبداية الثمانينيات، لم يكن الأمر قد ساء إلى هذه الدرجة، فقد كانت السلطات السعودية أكثر حساسية في التعامل مع مكة و الحرم المكي والحرم النبوي كما يقول د.عبدالرؤوف، فقد تم استدعاء مجموعة متميزة من المعماريين والعمرانيين شاركوا في مشروعات مباشرة تخدم الحرمين والمناسك، ومنها مدن الحجيج التي صممها المعماري الألماني الشهر فراي اوتو وقد استوحى تصميمها من خيام القبائل البدوية في محاولة لاستيعاب الحجيج دون التأثير على البيئة الحساسة للتلال المحيطة بمكة.

من المشاريع المميزة التي صممت ضمن هذا التوجه هو مشروع صالة الحج في مطار الملك عبدالعزيز الدولي والتي صممها المكتب الامريكي المعروف سكيدمور، وقد تم تصميم الصالة كشبكة مكونة من أكثر من مائتي وحدة من الملات أو الخيام المعتمدة على نظام الكابلات الصلب والأعمدة وهي مقسمة إلى ما يشبه قرى بدوية صغيرة في الهواء الطلق، بحيث يمكِّن الحجاج المسافرين من الراحة والصلاة في الظل قبل مواصلة رحلتهم، وتعليقًا على على هذه المشروعات يقول د.عبدالرؤوف بأن ما يميز هذه المشاريع هو كونها ذات طابع حداثي عصري ومستلهمة من البيئة المحلية والتقاليد السائدة ولا تتناقض مع تعاليم الإسلام ومبادئ البساطة والتواضع والمساواة.

بالإضافة إلى هذه الاقتراحات، يستعرض الكتاب مجموعة دراسات مميزة للتعرف على تحديات التخطيط والتنمية العمرانية في مكة، وقد خلصت هذه إلى مقترحات يبدو أنها لم تستطع الصمود أمام “العنف العمراني” و”رأس المال البترولي” فعلى سبيل المثال يظهر  مقترح دراسة الهندسة (1406هـ) فكرة النظام الإشعاعي الحلقي بحيث يتم تكوين حلقات دائرة تشع من الكعبة للمناطق المحيطة بالحرم تهدف إلى توجيه جميع المباني ومميرات المشاة والشوراع إلى الكعبة بطريقة عضوية تأخذ في عين الإعتبار عوامل الطوبوغرافيا ومسارات الحركة المناسبة، ومحاولة لتجنب الاسلوب الهندسي الجامد، وكان من ضمن المقترحات ألا تتعدى المباني المطلة على الساحة سبعة طوابق والأجزاء الخلفية لا تتعدى 15 طابق كما جاء فيه ضرورة رفع المباني بدور واحد على مستوى الأرض لتيسير حركة المشاة واتصال صفوف المصلين.

مسرحيّة الرواشين.. استهلاك مفردات العمارة الإسلامية – مكة نموذجا

في محُاولة للتخفيف من وطأة العنف العمراني الذي راح يتفشى في مكّة ومن حول الحرم كالمشاريع العملاقة مثل مشروع شركة مكة للإنشاء والتعمير وهو عبارة عن مجمع سكني تجاري حاول التعويض عن قياسه الضخم بمحاولة استدعاء الطابع العمراني الإسلامي، حيث تم استخدام الرواشين الخشبية على كامل الواجهات وقد ساهمت هذه الفكرة في القبول البصري لهذا المبنى “الضخم” وقد تم تسويقه باعتباره إحياء للطابع المعماري الإسلامي للمدينة.

هذه “المسرحيّة” كما يصفها الباحث تطلب مواجهة حقيقيّة كي لا ينحصر مفهوم حفظ التراث بالجانب الشكلي السطحي وتحوّل كل السياق العمراني المحيط بالحرم المكي إلى ديكورات مسرحية تستخدم فيها مفردات بصرية زخرفية مبتذلة لإضافة ما يسمى خطأ بالطابع الإسلامي للسياق على حد قوله، ثم يوضّح هذا في موضع آخر يقول فيه: ” لقد حوّل المعماريون والمطوِّرون اللغة المعمارية الأصيلة التي نبعت من سياق عمراني بسيط بعبقرية ومتضامّ بألفة، يتميّز بالأقنية الداخلية المفتوحة للسماء، والمواد المحلية والشوارع إنسانيّة المقياس إلى مُجرد شرائح زخرفية تُلصَق على المباني لإعطاء وهم الأصلة واحترام التراث والارتباط مع التاريخ”.

السخف المعماري .. وفتاوى في خدمة الرأسمالية! كيف دمرت مكة

كثيرة هي الانتقادات التي توجه إلى مشاريع “تعمير مكة” والتي ينقلها الكاتب في أكثر من موضع، مثل وصف الناقد المعماري لجريدة الجارديان البريطانية لأحد مشاريع التوسعة بأنها مثل “صفوف خبز التوست” ساخرًا من النمط المعماري المتناقض مع أجواء مكة والحرم، أو ناقد جريدة النيويورك تايمز واصفًا ما يحدث في مكة حول الحرم المكي بالـ”السخف المعماري”.

وأما من داخل السعوديّة نجد د.مشاري النعيم يصف المدن السعوديّة “الاسمنتية” بأنها “مجهدة ومنهكة لا تعمل على راحة من يسكنها، تزيد من التشتت الذهني ولا تصنع السعادة، تزيد من الضغط النفسي ولا تحث على التواصل الاجتماعي” كما نجد كاتب مثل عبدالسلام اليمني يقول: “ما انطباع الحاج والمعتمر والزائر بعد أن يعود إلى بلاده وهو يحمل ذكريات السكن في فندق”الفيرمونت”، والغداء في”الإنتركونتيننتال”، والعشاء في”ماكـــــدونالدز”، وترسخت في ذهنه أنماط معمارية شاهدها في واشنطن وماليزيا ودبي ولندن؟” بل إن الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز يقول: “عندما أكون في مكة، وأتحرك حول الكعبة، فإنني لا أنظر للأعلى” مُعقبًا على النقد الموجه للأبراج الشاهقة المحيط بالحرم.

كل هذه “السخف” تم بمباركة عدد من الفقهاء، ابتداء بفتوى مسح ومحو المباني التاريخية تحت حُجج الشرك بالله وانتهاء بالفتوى التي التي تعتبر صلاة الحاج أو المعتمر وحده في غرفته المطلة على الحرم مثل صلاة الجماعة وهو ما يصفه د.عبدالرؤوف بكلمات مميزة قائلًا:

“..حتى موظفي الاستقبال في الفنادق المطلة على الحرم في مكة وخاصة (فيرمونت أبراج البيت) مُدرَّبين على إسعادك، ونقل بُشرى فتوى أن الصلاة في غرف وأجنحة الفندق تعادل ثواب الصلاة في الحرم المكي، بدون مغادرة الغرفة أو الجناح حيث يكفي فقط التوجه إلى القبلة والنظر من أعلى إلى الكعبة الشريفة، من خلال النوافذ البلورية الممتدة من الأرض إلى السقف، هذا المشهد الدرامي أسفل الفندق..” ثم يؤكد بعد هذا أن هذا المبنى الشاهق .. ليست مُجرد مبنى أو عمارة شاهقة مثل أي عمارة أو ناطحة سحاب في لاس فيغاس.. ولكنه يساهم في تغيّر في تجربة الحج والعمرة لكل انسان مسلم.. بعد أن المآذن هي العنصر الأكثر سيطرة على المشهد والكعبة هي الأكثر حضورًا وتألقًا، بينما اليوم قد تضآلت كثيرًا.. كثيرًا جدًا!

ختامًا.. وبعد كُل هذه الحقائق حول الاعتداءات المُجحفة والقاسية التي أصابت قلب المدينة المقدسة، فإن البحث يختم كتابه بتصور مستقبلي “مثير” تحت عنوان: “العدم هو البناء” يقول فيه: أنه قد يكون الملائم أن نستبدل شعار “الهدم هو الحل” بشعار “الهدم هو البناء”  وذلك للتخلص من هذه الاعتداءات وازالة كل ما شوّه ملامح العفوية والبساطة والقدسية في مكة وجعلها أقرب إلى لاس فيغاس.. مدينة الخطيئة!

شارك
نشر المقال:
عمر عاصي