سلسلة عمران

كيف يُمكن لمشروع هندسي أن يُساهم في توحيد الأمّة؟ الخط الحديدي الحجازي نموذجًا!

المشاريع الهندسيّة في عالمنا العربي والإسلامي ليست قليلة، بل كثيرة وربما أكثر من أن تحصى ولكن لو تأملنا أكثر هذه المشاريع لوجدنا أنها لا تخدم شيئًا كما تخدم تكثير رؤوس الأموال لدى المستثمرين، ولا عجب فالكثير من كُتب الهندسة التي تُدرّس في الجامعات اليوم تُشجع الطلاب على فصل العلم عن القيم الحضاريّة وهو ما يُسميه د. عبد الوهاب المسيري بـ العلم المنفصل عن القيمة ولذلك فإننا سنحاول من خلال هذا التقرير أن نُسلط الضوء على مشروع خط الحديد الحجازي الذي حقق إلى جانب أهدافه الأقتصاديّة أهدافًا سياسيّة وعسكريّة مهمة ساهمت حينها في تعاضد وترابط المسلمين وساهمت في تقوية الدولة العثمانية في أصعب أيامها.

40 عامًا.. قبل الصافرة الأولى !

لم تكن فكرة إنشاء خط حديد الحجاز بفكرة جديدة حينما بدأت مرحلة التنفيذ في مطلع القرن العشرين وتحديدًا عام 1900م.. بل يعود تاريخها إلى عام 1864 حيث قام المُهندس الأمريكي الدكتور زيمبل بتقديم أول مخطط للمشروع إلى الدولة العثمانية في زمن والد السلطان عبد الحميد الثاني وهو السلطان عبد العزيز، وكانت الخطة ربط اسطنبول بالمدينة المنورة إلا أن سوء الأحوال في الدولة العثمانية حينها لم يُمكنها من الإقدام على هذه الخطوة كما يُشير د. متين هلاكو في كتابه الخط الحديدي الحجازي، إلا أنه يُضيف لاحقًا بأن أشمل وأدق عرض من بين العروض التي قُدمت للدولة العثمانية هو الذي قدمه “أحمد عزت باشا” الذي كان مسؤولًا عن أوقاف جدّة حينذاك، ووضح فيه بشكل مُفصّل الفوائد التي ستعود على الدولة العثمانية بعد هذا المشروع، وأبرزها أن المشروع سيمنع التهديدات ضد الدولة العثمانية عامة، والتهديدات الداخلية والخارجية المتعلقة بمستقبل الدولة العثمانية في شبه الجزيرة العربية.

مصدر الصورة: عربي بوست

 

جمال الدين الأفغاني والسلطان عبد الحميد!

ولعلّ أحد أهم الأسباب التي عجّلت بتنفيذ المشروع هي المُبادرة التي كان يقودها الشيخ جمال الدين الأفغاني في نفس تلك الفترة لإحياء الجامعة الإسلامية وربط الدول الإسلامية مع بعضها لتأمين اتحاد عالمي إسلامي ضد الاستعمار الأوروبي، وقد راقت هذه الفكرة للسلطان عبد الحميد الثاني الأمر الذي عجّل بتنفيذ المشروع، وفي هذا يقول الباحث مهند مبيضين: “فكرة الجامعة الإسلامية يجب أن يكون هناك مشروع يحملها، هذا المشروع هو مشروع يجمع المسلمين ويربطهم ويسهل عليهم أداء الفريضة الأكبر وهي فريضة الحج”. ويضيف أن الحصول على الموارد لم يكن سهلًا في تلك الفترة بعد الحروب التي خاضتها الدولة العثمانية حينها وبالأخص الحرب الروسيّة، وبالتالي بدأ البحث عن موارد مالية أخرى وكانت الفكرة بجمع التبرعات، وللحث على التبرع للمشروع أعلن السلطان عن تبرعه بحوالي 320 ألف ليرة تركيّة للمشروع “الإسلامي” الجديد. ويشير الباحث أحمد المفتي بأن السلطان عبد الحميد ابتدع أساليب كثيرة جدًا لترغيب المسلمين في طرح التبرعات، مثل قضية الطوابع البريدية والميداليات والنياشين والأوسمة والألقاب، حتى أن أحد النمساويين دفع حوالي 2100 ليرة ذهبية للحصول على لقب باشا.

هذا المقال من ضمن سلسلة عُمران

الهندسة والاستحمار … عندما نفصل الفكر عن الهندسة

الجفت.. وقود من بلاد الزعتر والزيتون

كيف يُمكن لمشروع هندسي أن يُساهم في توحيد الأمّة؟ الخط الحديدي الحجازي نموذجًا!

كيف للعلم أن يُدمرنا؟ تأملات في الفِكر والهندسة!

من مكة إلى لاس فيغاس.. كيف غيّرت فنادق مكّة مفهومنا عن الحج؟

المقاومة بالطاقة الشمسية.. كيف يُمكن للشمس أن تتحول لوسيلة صمود؟

من موسيقى الماتورات إلى أوقاف التقنية والعلوم.. تأملات “سيد دسوقي” في الهندسة والقرآن!

السعادة النامية الأبدية فى السكة الحجازية

مع أن التبرعات للمشروع وصلت من كافّة الأقطار، ورغم الحماسّة الشديدة للمشروع بين عامّة المسلمين إلا أن بعض التجار والقبائل التي كانت تنتفع من قوافل الحج حاولت بكُل ما لديها من قوّة أن تحرض ضد المشروع بل وتنظيم الاعتداء على القطار، هذا غير رجال الدين الذي راحوا يحرضون ضد المشروع بزعم أن أجر الحج يتفق مع الجهد الذي يبذل في سبيل أداءه وبالتالي كان لا بُد من الوقوف في وجه ادعاءات أولئك المُحرضين فكتب الشيخ محمد عارف الحسيني الدمشقي كتابًا يدفع فيه الشبهات عن هذا المشروع الهندسي وسمّاه السعادة النامية الأبدية في السكة الحجازية ويوضح فيه الفوائد التي ستعود على المسلمين مع ذكر تفاصيل دقيقة جدًا ومقارنات بين وضع الحج قبل وبعد “السكة” بما في ذلك معلومات عن أنواع المزروعات في كل منطقة والأوقات والمسافات والاستراحات التي كانت تقطعها القوافل كما الحديث عن المخاطر التي كانت تواجه الحجاج.

في فصل “في بيان أن في هذه السكّة تعاضد المؤمنين وما فيه من النفع الدنيوي والأجر الآخروي” يقول الشيخ الدمشقي: “اعلم أن في إنشاء هذه السكة الحديدة تسهيل اتصال المؤمنين بعضهم ببعض..” ثم يُكمل بعد أن يسرد عددًا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في فضل وحدة المسلمين ويقول: “أعظم واسطة لاكتشاف المؤمنين أحوال بعضهم والوقوف على أخبارهم في البلاد البعيدة الشاسعة إنما هو الحج ففي الحج فوائد دينية وسياسية .. ولا ريب أن في التعاضد نجاة كبيرة من كيد الأعداء فتعاضد المسلمين ظاهرًا وباطنًا بحيث يكونون كالعضو الواحد يمكنهم من كف أذى أعدائهم عن دينهم وملكهم وأنفسهم ويجلب لهم المنفعة التي لا تكون إلا به”.

 

بداية نهضة عُمرانية..؟

والحديث عن فوائد السكّة لا ينتهي عند توحيد الأمّة وتعاضدها، بل كان لها فوائد اقتصاديّة كثيرة لا يُمكن لأي مُنصفٍ إنكارها، فهذا الباحث المؤرخ نقولا زيادة – وهو مسيحي – قد كتب عنها من زاوية مُختلفة، فوالد نقولا زيادة كان يعمل في شركة هندسيّة المانية مسؤولة عن تخطيط وتنفيذ المشروع، فكتب كيف اشترطت الدولة العثمانية بأن الشركة الألمانية يجب أن تسلم إدارة المشروع وتنفيذه للعرب والأتراك عند الوصول للحجاز، وبالتالي كان لا بُد من إجراء تدريب تقني للشباب العرب طيلة فترة المشروع وكان أبرزهم نظيف بك الخالدي والذي سُمي جبل النظيف في عمان على اسمه.

وفي حديثه عن المشروع يقول: “يجب الاعتراف بأن بناء سكة حديد الحجاز كان إنجازًا هندسيًا من الدرجة الأولى، فالأرض التي تمر بها السكة صعبة والجبال كثيرة ولهذا كان لا بُد من بناء انفاق كثيرة.. وقد اعتبرت السكة من الانجازات الهندسيّة الرائعة في القرن العشرين” ولا ينسى أن يُذكرنا بأن تنفيذ المشروع قد تأخر بسبب مقاومة البدو له وبسبب عمل القنصليّة الفرنسية على عرقلة وصول المواد كالأخشاب والحديد لسكّة ليس لفرنسا فيها حصّة. وقد نقل في نهاية حديثه عن المعوقات أن المشروع عاد بالفوائد الجمّة على الكثير من المدن في بلاد الشام بل وساهم في قيام قرى وبلدات جديدة على خط السكة مثل بلد “زيزياء” في الأردن وبالإضافة إلى ذلك فإن المشروع ساهم في زيادة أعداد الحجاج بشكل كبير، ومن بين الفوائد هناك فوائد شخصيّة حصلت له من هذه السكة تستحق التأمل مثل رحلاته بين فلسطين وسوريا وتأملاته لعودة الحجاج في القطار من المدينة المنورة وهي موجودة في كتاب “حول العالم في 76 عاماً .. رحلات مثقف شامي في آسيا وأوروبا والشمال الإفريقي (1916-1992)”.

بالإضافة إلى نقولا زيادة، فإن الباحث “جوني منصور” قد كتب دراسة مفصلة عنوانها “دور سكة حديد الحجاز في تطور مدينة حيفا” يوضح فيها كيف ساهم بناء هذا الخط بزيادة العُمران في حيفا وخلق فرص عمل جديدة واستقادم العمال والموظفين لا من فلسطين فحسب بل من البلدان المجاورة، الأمر الذي أدى إلى زيادة عدد سكانها بشكل ملحوظ، كما ساهمت السكة في تطوير ميناء حيفا والصناعات فيها وساهم في تطوير قطاع السياحة في المدينة.

 

الحرب العالمية.. اسكات الصافرة!

من أهم الأعمال الوثائقية التي تناولت مشروع السكّة الحجازية هو الفيلم الوثائقي “من أسكت الصافرة” وفيه تفاصيل كثيرة تبعث على الأسى وبالأخص في نهاية الوثائقي وعند بدء سرد حكاية نهاية هذا المشروع العملاق على يد المدعو لورنس العرب وبعض المتعاونين معه من المسلمين، ثم كيف تحوّل هذا المشروع لخدمة الاستعمار لاحقًا. وما يثير الأسى أكثر خيبة المؤرخ نقولا زيادة الذي كان يُتابع أخبار السكة باهتمام ويذكر كيف كانت هناك الكثير من الجلسات لإعادة إحياء الخط قبل الحرب العالمية الثانية وفي عام 1956 كانت هناك مُباحثات أكثر جديّة تحمس لها كثيرًا، ولكنه يُنهي حديثه قائلًا بأن كُل تلك المحاولات كانت مجرد حبرًا على ورق.

من الجدير بالذكر أن آخر المحاولات لإحياء هذا الخط كان عام 2006 ولكنها لم تتم بسبب الخلافات التي نشبت بين الشركات السعودية – مجموعة الشركات التي تقدمت لاستثمار هذا المشروع – في البداية والجانب السوري الذي كان يتلقى شكاوى من إحدى هذه الشركات على الأخرى كما يذكر الباحث أحمد الحصني، بالاضافة إلى محاولة أخرى من جانب تركيا عام 2011 ولكنها لم تتم بسبب اندلاع الثورات في العالم العربي.

رابط فيلم من أسكت الصافرة

https://www.youtube.com/watch?v=3VkUhv1SozE

 

في الختام

بعد تحقيق الإنجاز التاريخي بالوصول إلى بلاد الحجاز والمدينة المنورة من دمشق في غضون خمسة أيام بتاريخ 31 آب 1908 وذلك بدلًا من أربعين يومًا التي كانت تقطعها القوافل أو اثني عشر يومًا عبر طريق البحر كان يُلاقي فيه المسافرين الإرهاق والمخاطر الكثيرة، باتت رحلة الحج سهلة ومعها تمكنت الدولة العثمانية من الصمود لبضعة سنوات أخرى في وجه الدول الاستعماريّة التي كانت تنهشها كما تمكنت من تحقيق نوع من الازدهار في الكثير من المناطق التي مرّ بها القطار رغم كُل الأوضاع الصعبة، إلا أن كُل ذلك لم يدم طويًلا.

فقد تم تخريب الكثير من الأجزاء من السكة خلال الحرب العالمية ولا زالت الدولة العربية حتى يومنا هذا غير قادرة على إحياء هذا المشروع الجبّار الذي تحقق قبل أكثر من 110 أعوام في زمن السلطان عبد الحميد الثاني والذي كتب عنه في مذكراته بقوله: “أخيرًا تحقق الخط الحجازي، ذلك الحلم الذي طالما راود مخيلتي، فذلك الخط الحديدي لم يكن فقط مصدرًا اقتصاديًا للدولة العثمانية، بل كان في الآن ذاته يُمثل مصدرًا بالغ الأهمية من الناحية العسكرية من شأنه تعزيز قدراتنا العسكريّة على امتداده”، واليوم وبعد كُل هذا التاريخ لم يعد هناك خط واحد للحجاز، بل خطوط كثيرة.. وحدود أكثر، حدود على الأرض وحدود على الأوراق وجوازات السفر وحدود في الأنفس تحت مزاعم “وطنية” كُلها تُعرقل احياء هذا المشروع وغيره من المشاريع التي تعزز من قوة الأمة ووحدتها حتى اليوم!