معلومة طبية

كيف يقوم الدماغ بإنشاء سلاسل الذكريات؟

هل تتذكر المرة الأولى التي التقيت فيها بزميلك في الغرفة أيام الدراسة؟ على الأرجح كنت تشعر بالتوتر، وتتحدث بصوت عال قليلاً وتصطنع ضحكاتك أحياناً، ماذا تجلب تلك الذكرى إلى ذهنك أيضاً؟ هل تتذكر الغداء الذي تشاركتمانه فيما بعد؟ أصدقاء السكن الذين قابلتماهم تلك الليلة؟

بشكل عام، يبدو بأن الذكريات تجلب ذكريات أخرى، وبمجرد التفكير في واحدة، ستبدأ بالتفكير بأخرى، لتليها أخرى وأخرى، والآن أصبح علماء الأعصاب يعلمون السبب.

عندما يحدث أمران خلال فترة تعاقب قصيرة، فإنهما يبدوان مترابطين بطريقة أو بأخرى مع بعضهما، وقد تبين أن الصلة الواضحة تمتلك مظهراً مادياً في أدمغتنا، وذلك تبعاً لما أشار له الباحثون من مستشفى الأطفال المرضى في تورونتو (SickKids)، وجامعة تورنتو وجامعة ستانفورد، فبحسب عالم الأعصاب (بول فرانكلاند)، المتعاقد مع كل من جامعة تورونتو ومستشفى (SickKids)، نحن نعلم بشكل حدسي أن هناك هيكلية لذاكرتنا، وهذه التجارب التي قام الباحثون بإجرائها، بدأت تكشف الكيفية التي تترابط فيها الذكريات في الدماغ.

تتمثل الذكريات مادياً في الدماغ البشري، وفي أدمغة فئران التجارب، من خلال مجموعات من الخلايا العصبية تمتلك موصلات معززة فيما بينها، وتعرف هذه المجموعات من الخلايا المتصلة بآثار الذاكرة أو الإنغرامات(engrams)، لذلك فعندما تتلقى الفئران صدمة خفيفة على أقدامها في قفص معين، يتم تشكيل الانغرام لترميز ذكرى ذلك الحدث، وبمجرد تشكل تلك الذاكرة فإن مجموعة الخلايا العصبية التي تشكل الانغرام تصبح أكثر عرضة للتنشط، وعلاوة على ذلك، فإن الخلايا التي تتنشط بسهولة أكبر، تكون أكثر عرضة ليتم استخدامها كانغرامات، لذلك إذا قمت بزيادة استثارة خلايا عصبية معينة، سيكون بإمكانك تضمينها بشكل انتقائي في الانغرامات الجديدة.

السؤال الأهم هو، هل هذا المبدأ ينطبق على ذكرتين تحدثان في فترة متقاربة من بعضها؟ الجواب هو أن الخلايا العصبية في آثار الذاكريات التي تم تشكيلها حديثاً تكون أكثر نشاطاً من خلايا المخ المجاورة لها لفترة عابرة من الزمن، لذلك فإن الذكريات التي يتم تشكيلها بعد فترة وجيزة من الأولى قد يتم ترميزها ضمن مجموعة متداخلة من الخلايا العصبية، وهذا بالضبط ما وجده كل من (فرانكلاند) والباحثة المشاركة في الدراسة والتأليف (شينا جوسلين).

الفئران التي شكلت ذاكرة الخوف – بعد أن تم صعق أقدامها في بيئة معينة – والتي شكلت ذاكرة ثانية بعد ست ساعات، كانت قد شكلت تلك الذكرتين بشكل انغرامات متداخلة، أما الفئران التي شكلت الذكريات ذاتها ولكن بعد انقضاء 24 ساعة بين الذكرة الأولى والثانية، فقد استخدمت مجموعات منفصلة من الخلايا العصبية لكل من الذكرتين.

كان فريق (جوسلين)، وهي عالمة أعصاب في كل من مستشفى (SickKids) وجامعة تورونتو، و(فرانكلاند)، قادرين على التلاعب بالصلة بين ذكرتين عن طريق تعديل استثارة الخلايا العصبية خلال نقاط زمنية مختلفة أيضاً، فعلى الرغم من أن الفئران كانت تشكل عادة ذكريات منفصلة عندما كانت تلك الذكريات تحدث بعد انقضاء 24 ساعة بين كل منها، إلّا أنه عندما قام الباحثون بإعادة تنشيط الخلايا العصبية في انغرام الذاكرة الأولى أثناء تشكل الذاكرة الثانية، كان بإمكانهم  ربط تلك الحادثتين بشكل مصطنع.

ولكن من جهة ثانية، فقد واجه الباحثون بعض المشاكل عندما حاولوا فصل ذكريات حدث ضمن فترة ست ساعات، حيث أن تقليل استثارة الخلايا العصبية في الذاكرة الأولى خلال الحدث الثاني، منع ذكرى الثانية من التشكّل، وقد أشارت (جوسلين) أن الباحثين كانوا مندهشين من ذلك، ففي هذه الأنواع من التجارب، عادة ما يتم التلاعب بحوالي 10% فقط من الخلايا العصبية في اللوزة، ولكن إذا لم تكن الذكرى الثانية قادرة على التشكل، فإن هذا يعني بأن شيئاً ما يتغير في الـ90% الباقية من الخلايا العصبية، وهذا يعني بدوره بأن الخلايا العصبية تتنافس ليتم تضمينها في الانغرامات الجديدة، وأن هذه المسابقة تتضمن قواعد استثارة، ولذلك تكون الـ10% من الخلايا العصبية هي الفائزة، لأنها تحول دون تثبيط الـ90% الأخرى، وبهذا تكون هي الفائزة بكل شيء.

بحسب عالم الأعصاب (ستيف راميريز) من جامعة هارفارد، والذي لم يشارك في الدراسة الجديدة، فإن القدرة على النظر داخل الدماغ بهذا المستوى من الدقة هو أمر جديد بالكامل، فقبل 10 سنوات فقط، كان يعتقد بأنه من غير المعقول أن نكون قادرين على النظر داخل الدماغ ورؤية هذه الذكريات، ومستقبل هذا البحث هو الحصول على مخطط لكيفية عمل الذاكرة.

على الرغم من أن الباحثين قد بحثوا فقط في كيفية ترابط ذكرتين في وقت واحد، فإن الهدف النهائي هو أن نفهم الشبكة الكاملة من الذكريات، وتبعاً لـ(جوسلين)، فإن الهدف من ذلك هو أن نفهم كيفية تراكم الذكريات فوق بعضها.

للإجابة على هذا السؤال يجب على الباحثين ان يقوموا بالخوض ضمن مجال لم يخض به أحد قبل الآن إلى حد كبير، فحتى الآن هذه الدراسة هي الثانية فقط من نوعها، وما قام به كل من (جوسلين) و(فرانكلاند) هو درسة تشكل ذاكرة متداخلة في منطقة الدماغ التي تسمى اللوزة، والتي ترتبط مع تذكر تجربة الخوف، أما الدراسة الثانية التي قام بها عالم الأعصاب (الكينو سيلفا) من جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس، وزملاؤه، فقد بينت أن المبدأ ذاته ينطبق على تلفيف الحصين، الذي يخزن المزيد من المعرفة الفعلية.

التفاعل بين الذكريات هو في الواقع جزء أساسي من كيفية تشكيل رؤيتنا المتماسكة عن العالم، وهذا هو الهدف الأكبر، وهذه التجربة هي مجرد خطوة في الاتجاه الصحيح، فهذه هي نقطة انطلاق نحو فهم كيفية ترابط المعلومات في أدمغتنا عبر الزمن، الأمر الذي يعتبر واحداً من أكبر الألغاز في العلم، لأن قدرتنا على فهم عالمنا تكمن وراء ذلك.

 

شارك
نشر المقال:
فريق التحرير