تقنية

كل ما تحتاجه لمعرفته عن مصادم الهدرونات الكبير

عميقاً تحت الحدود بين سويسرا وفرنسا، يقوم جهاز على شكل حلقة عملاقة بجعل الجزيئات تتصادم ببعضها بسرعة لا تصدق، ومن خلال مراقبة العلماء لهذه التصادمات، يكون بإمكانهم مراقبة الجسيمات المتناهية الصغر – التي تشكل بشكل أساسي نسيج الواقع – خلال لحظة متناهية بالصغر من الزمن، وهذا الهيكل الضخم يُعرف باسم “مصادم الهدرونات الكبير (LHC)، وقد قدم للفيزياء رؤية لا تصدق عن التركيبة المادية لكوننا.

إلى جانب ذلك، يبدو أيضاً بأن جميع العناوين التي تتحدث عن الـ(LHC) تهدد إما بإسقاط النموذج الحالي للفيزياء، أو فتح بوابة ما بين أبعاد الزمكان، ولكن بالنظر إلى كمية المعلومات (والتضليل) الذي يوجد على مواقع الإنترنت حول مصادم الجسيمات، فقد قررنا تقديم هذا الدليل الشامل والبسيط الذي يحدد كل شيء قد ترغب في معرفة على الـ(LHC).

ما هو مصادم الهدرونات الكبير؟

تم بناء مصادم الهدرونات الكبير ما بين عامي 1998 و2008، وبدأ تشغيله لأول مرة في 20 تشرين الثاني من عام 2009، بعد تأخير لمدة عام بسبب حادث أدى فيه تماس كهربائي في مبرد الهيليوم السائل إلى حدوث تنفيس داخل النفق، وقد وصلت تكلفة بناء هذا المشروع الضخم المذهل لحوالي 9 مليار دولار، مما جعله أغلى آلة بنيت في أي وقت مضى.

كما يوحي اسمه، فإن مصادم الهدرونات يقوم بجعل حزم من الجسيمات الصغيرة مثل الهادرونات – أي جزيئات صغيرة مكونة من جسيمات دون ذرية أصغر تعرف باسم الكواركات – بالتصادم ببعضها البعض بسرعات فائقة، وهذه الحزم من الجسيمات التي يتم إطلاقها بقوة تصل لحوالي الـ 13 تيرا الكترون فولت (TeV)، تؤدي لتوليد جسيمات تمتلك كثافة لا تصدق وتكون أكثر سخونة بحوالي مليون مرة من لب الشمس، وهذا هو أحد الأسباب الكثيرة التي جعل البناء يقع تحت الأرض، والسبب الذي يجعل من الواجب تبريده إلى 1.9 درجة كلفن، أو ما يقرب من 1.9 درجة فوق الصفر المطلق.

هذه ليست الأرقام المدهشة الوحيدة المرتبطة بالـ(LHC)، فعلى طوال مدار الحلقة التي يشغلها، والتي تبلغ 17 ميلاً، يوجد نحو 1600 مغناطيس يقوم بحني حزمة الجسيمات وتوجيهها عبر النفق الهائل لتصطدم ببعضها، أما تلك المغناطيسات فهي مصنوعة من خيوط صغيرة ملفوفة من النحاس المطلي بالنيوبيوم والتيتانيوم، والتي يبلغ طولها– إذا تم حلها عن بعضها – ما يعادل خمس أضعاف المسافة من الأرض إلى الشمس، أو ما يكفي للالتفاف حول القمر والعودة منه عدة مرات.

كل تلك المواد المغناطيسية تساعد في تسريع حزم الجسيمات لسرعات فائقة، ولكن هذه السرعات لا تذكر بالمقارنة مع سرعة الضوء، ولكن عندما تتصادم الجسيمات الصغيرة في مثل هذه السرعات، فإنها تنفجر لتشكل جسيمات دون ذرية، تتحطم وترتد عن بعضها البعض في بيئة ذات طاقة عالية مشابهة لحالة الكون عند الانفجار الكبير، ومن خلال هذه الانفجارات يبحث العلماء عن أدلة جديدة عن كيفية عمل الكون.

من أجل جمع وتحليل الكميات الهائلة من البيانات التي ينتجها (LHC)، تم نشر شبكة عالمية تضم حوالي 170 مركزاً للحواسيب في أكثر من 36 بلداً لمعالجة عشرات البيتابايتات من البيانات في كل عام، وهذه الشبكة كبيرة لدرجة أنها حالياً تحمل الرقم القياسي العالمي لغينيس لأكبر شبكة كمبيوترات وزعت على الأرض.

بوزون هيجز والاكتشافات الأخرى التي قدمها (LHC)

حالياً، نقوم باستخدم النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات لشرح كيفية عمل فيزياء الجسيمات، وهذا النموذج القياسي الذي تم وضعه على مدى القرن الـ20 من قِبل مختلف العلماء، ظل ثابتاً حتى الآن في شرح جزء الكون الذي نستطيع رصده بشكل مباشر، ولكن هذا الجزء لا يشكل سوى حوالي 5% من الكون، مما يترك الـ95% المتبقية من الكون مجهولة بالنسبة لنا، بما في ذلك المادة المظلمة والطاقة المظلمة، وأي قوة محتملة أو تفاعل يمكن أن تقوما بها.

حتى بالنسبة للأجزاء التي يمكننا ملاحظتها، فإن هناك بعض الأسئلة التي لم يتم الإجابة عنها بعد، فالنموذج القياسي لا يحتسب الجاذبية، وهو غير متوافق مع النظرية النسبية، ومن الواضح أنه يترك لدينا الكثير من الأشياء لاكتشافها.

هنا يأتي دور (LHC)، فحتى الآن، أكدت تجارب المصادم وجود بوزون هيغز، المعروف أيضاً باسم “جسيم الرب”، والذي كان يعتبر جانباً نظرياً مهماً من النموذج القياسي، ولم تتم ملاحظته قط حتى تم تأكيد وجوده من خلال الاختبار الذي تم إجراؤه في (LHC) في 4 تموز/ يوليو من عام 2012.

يعتبر بوزون هيغز بأنه جزيء مراوغ ذو كتلة مرتفعة، وهو الشيء الذي يعطي الكتلة لجميع المواد في الكون؛ أي أنه هو الذي يتيح بشكل أساسي للأشياء أن توجد بشكلها المجسم.

تم ملاحظة وجود جزيئات أخرى، مثل الهادرونات الشاذة X (3872)، Z (4430)، Zc (3900)، وY (4140)، من خلال تجارب المصادم أيضاً، وذلك فضلاً عن عدد من الجسيمات الأولية المحتملة الأخرى التي تنتظر التأكيد حتى الآن.

اعتبر اكتشاف بوزون هيغز خطوة كبيرة إلى الأمام في مجال فهم القوانين الفيزيائية للكون، ولكنه أدى أيضاً إلى توليد المزيد من التساؤلات والمشاكل، وفي الواقع، فإن معظم ما كشفه (LHC) عن فيزياء الجسيمات أدت لوجود المزيد من الأسئلة أكثر من الأجوبة، لذلك، ما يزال الباحثون يواصلون استخدام (LHC) لتوليد اصطدامات بين الجسيمات على أمل العثور على بعض الإجابات.

إجراءات السلامة في (LHC) وتصادم الجسيمات

بطبيعة الحال، وعندما يتعلق الأمر بالتعامل مع مثل هذه الكميات الكبيرة من الطاقة والمعدات المكلفة والقوية، فإن السؤال يصبح: هل هذا الأمر آمن؟ الجواب المختصر هو نعم، ولكن ذلك لم يمنع الأشخاص من افتراض عدد من سيناريوهات يوم القيامة.

اقترح العلماء المعروفين مثل (ستيفن هوكينغ) و(نيل تايسون) مجموعة من الأحداث الكارثية المحتملة التي يمكن أن تحدث نتيجة لاستخدام (LHC)، بما في ذلك تشكل ثقوب سوداء صغيرة، وتدمير الأرض، وانتاج جسيمات نظرية مدمرة تعرف باسم (strangelets)، كما حذر (هوكينغ) أيضاً بأن بوزون هيغز هو اكتشاف خطير ويمكن أن يكون مدمراً، وينبغي أن يُترك دون أن يتم العبث به.

ومع ذلك، فقد أوضح علماء فيزياء ينتمون لجمعية الفيزياء الأمريكية، بتكليف من المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (سيرن)، بأنه ليس هناك أي مخاوف تتعلق بالسلامة في (LHC)، بل في الواقع، وكما أشارت التقارير الصادرة عنهم، فإن أنواع تصادمات الجسيمات التي ينتجها (LHC) تحدث باستمرار في جميع أنحاء الكون، وتشبه الاصطدام بين الأشعة الكونية فائقة الطاقة والأرض، وهي تصادمات تحدث بسرعة أكبر بكثير مما يقوم به المصادم .

أدت هذه المخاوف الصادرة عن مثل هذه الشخصيات العلمية الكبرى إلى الكثير من نظريات المؤامرة بشأن (LHC)، وكانت النظريات الأكثر إبداعاً والتي انتشرت عبر الإنترنت تقول بأن سيرن (CERN) تستخدم المصادم لفتح بوابات الجحيم، لنقلنا إلى نوع من الواقع البديل، والتواصل مع الكائنات الشريرة، ولكن هذا ليس سوى غيض من فيض، فحقيقة أن الباحثين يناقشون علناً امكانية مساعدة المصادم على اكتشاف دليل على وجود أكوان متعددة أو أبعاد أخرى في منطقتنا لا تفعل شيء سوى صب الزيت على نار النظرية التآمرية.

من الجوانب البارزة في العديد من نظريات المؤامرة هذه هي أن سيرن (CERN) بحد ذاتها مرتبطة بآلهة هندوسية هي آلهة الخلق والدمار “شيفا”، التي تعتبر بأنها نوع من التميمة لـ(LHC)، ولها تمثال موضوع عند مدخل (LHC)، حيث يدعي كثيرون بأن هذا اعتراف خفي بأن هناك شيء يتعلق بالعالم الآخر يحدث في سيرن (CERN)، ولكن في الواقع، وجود التمثال يمكن توضيحه بسهولة، حيث أن هذا التمثال كان ببساطة هدية من الحكومة الهندية في احتفال الانتهاء من بناء المصادم، وقد شعرت سيرن (CERN) بأن وضع “شيفا” كآلهة للخلق والدمار على بوابة المصادم سيكون استعارة مناسبة لوظيفة ((LHC.

ما هي الخطوة التالية بالنسبة لـ(LHC) وفيزياء الجسيمات

الآن، وبعد أن استخدم الباحثون (LHC) للعثور على بوزون هيغز، ما هي الخطوة التالية لهذا البناء العظيم؟

يبدو بأن اكتشاف بوزون هيغز  ليس سوى البداية، حيث يأمل الباحثون في العثور على أنواع أخرى من البوزونات والجسيمات الأولية الأخرى، واستخدام (LHC) لبدء اختبار نظرية التناظر الفائق، التي تفترض بأن كل جسيم من المادة يمتلك نظيراً آخر أكبر منه في مكان آخر في الكون.

من المقرر أيضاً أن يتم إجراء بعض التحسينات على (LHC) في وقت ما بعد عام 2022، الأمر الذي سيزيد من طول الطيف ويجعل النتائج أكثر وضوحاً، وبعبارات بسيطة، فإن هذا يعني بأن الباحثين سيكونون قادرين على مراقبة الاختبارات على نحو أفضل، وستكون الأنفاق مضاءة بشكل أفضل.

هذا أمر مهم لأسباب واضحة، ولكن القلق الرئيسي هو أن لا يعود هناك ما يمكن لـ(LHC) اكتشافه نظراً لدرجة اللمعان الحالية، ففي وقت مبكر من حياة المصادم، كان عدد الاكتشافات أكبر بكثير من أصبح عليه فيما بعد، مع انخفاض عدد الأشياء التي يمكن رؤيتها في لمعان معين، والطريقة الوحيدة لزيادة عدد الاكتشافات المحتملة هي رفع مستوى اللمعان للمنشأة أو قوة أدواتها، لذلك قد تسمح التحسينات التي سيتم إدخالها بكشف جوانب أكثر تعقيداً من فيزياء الجسيمات.

يأمل العلماء أن يستطيعوا في يوم ما استخدام (LHC) لأخذ نظرة خاطفة على عالم المادة المظلمة واكتشاف أبعاد خفية محتملة للكون، إلّا أن هذا لن يكون في أي وقت قريب بالتأكيد، ولكن بعد كل شيء، كان تأكيد وجود بوزون هيغز بحد ذاته يعتبر مجرد أضغاث أحلام لا أكثر فيما مضى.