التصنيفات: متفرقات

عسل الجنون: دواء ومخدر وسلاح

منذ آلاف السنين كان يتم إنتاج عسل الجنون في تركيا، وكان هذا العسل يستخدم كمادة للتحلية، أو كدواء، أو حتى كسلاح من أسلحة الحرب، فما هو هذا العسل؟

في القرى التركية التي تقع على البحر الأسود، ما يزال العديد من السكان المحليين يعملون في زراعة الأرض، فهناك يمكنك أن تجد حقول القمح والذرة ومربي الماشية وحتى النحالين، وفي تلك الأراضي يطلق النحالون نحلهم في المناطق الواسعة الجميلة المملوءة بزهور (الريددندرين) البيضاء والأرجوانية اللون، وعندما يحط النحل على هذا النوع من الأزهار يقوم بتلقيحه ويأخذ منه ما يحتاجه من رحيق لصنع نوع خاص من العسل الذي كان يستخدم كمنشط جنسي، ودواء، وحتى كسلاح في الحرب، وهو عسل الجنون أو ما يدعى بـ(ديلي بال).

يعود أصل عسل الجنون إلى منطقة قرب البحر الأسود في شرق تركيا، لكن في الوقت الحاضر يتم إنتاج هذا النوع من العسل أيضاً في مناطق أخرى حيث تنمو زهور (الريددندرين)، ولكن هذا لا يعني أن أي نوع من أنواع زهور (الرودودندرون) يمكن استخدامه لإنتاج عسل الجنون، فهناك بضعة أنواع فقط تصلح لذلك وهي (الريددندرين الأصفر وريددندرين البونتيسيوم)، حيث أن هذين النوعين يمتلكان سم عصبي طبيعي يسمى (grayanotoxin) في رحيقهما، وعندما يتم شرب هذا النوع من الرحيق مع المشروبات الأخرى (أو حتى إذا ما تم شربه لوحده)، فإن عسل الجنون يعطي نوعاً خاصاً من الثمالة، حيث أنه يجعل من يشربه يشعر بالنشوة وحتى الهلوسة، مما يجعله يعمل بشكل أساسي مثل المخدرات، ولكنه مكلف جداً، حيث أن هذا النوع من العسل هو على الأرجح الأغلى ثمناً في العالم، فثمنه قد يصل إلى حوالي 166$ للأوقية، بالإضافة إلى أن الاستهلاك الزائد منه يمكن أن يتسبب بحدوث تأثير مماثل لأخذ جرعة زائدة من المخدرات، والتي تشمل المرض والتقيؤ والإسهال وفقدان الوعي، والإصابة بنوبات عصبية، وقد يكون قاتلاً في بعض الأحيان، ولهذا السبب كان يستخدم كسلاح في العصور القديمة.

تبعاً لـ(فون براينت)، وهو أستاذ في الأنثروبولوجيا من جامعة تكساس A & M، وأحد أهم خبراء العسل، فإن أحد أقدم التقارير التي وصلت لنا عن عسل الجنون جاءتنا من قبل (زينوفون) من أثينا، وهو أحد طلاب سقراط ومؤرخ يوناني وجندي، حيث كتب (زينوفون) أنه في 401 قبل الميلاد، وعندما كان عائداً مع الجيش اليوناني عن طريق شواطئ البحر الأسود بعد هزيمة الفرس، مروا بالقرب من مدينة طرابزون (التي تقع في شمال شرق تركيا)، وقرروا أن يتناولوا بعض العسل المحلي الذي تمت سرقته من بعض المناحل القريبة، ولكن بعد ساعات من تناول هذا العسل بدأت القوات بالتقيؤ، وأصابها الإسهال، وأصبحت مشوشة، ولم يعد بإمكان الجنود الوقوف على أقدامهم، ولكن الآثار اختفت في اليوم التالي وكانوا قادرين بعد ذلك على الاستمرار في مسيرهم إلى اليونان.

ولكن بعد بضعة قرون، لم يحالف الجنود الرومان الحظ، فعندما كان (جنايوس بومبيوس ماغنوس) أو (بومبيوس العظيم) وجيشه الروماني يطارد الملك (ميثريدتس من بونتوس) والجيش الفارسي على طول البحر الأسود، قام الفرس بملء العديد من الأواني بالعسل المحلي وتركها للقوات الرومانية ليعثروا عليها، وعندما قامت القوات اليونانية بتناول هذا العسل، أصبحوا مشوشين، وغير قادرين على المحاربة، وبذلك استطاع الجيش الفارسي العودة وقتل أكثر من 1000 جندي روماني دون تكبد خسائر تذكر بين صفوفهم.

على الرغم من انتشار زهور (الريددندرين) في جميع أنحاء العالم، إلّا أن هناك عدد قليل من المناطق فقط يمكنها صناعة عسل الجنون، فتبعاً لـ(سليمان توريدي)، وهو طبيب في كلية كارادينيز التقنية في جامعة الطب في طرابزون- تركيا، والذي قام بدراسة آثار عسل (ديلي بال) وشهد أكثر من 200 حالة من حالات التسمم الناتجة عنه، فإن هناك أكثر من 700 نوع مختلف من أنواع زهور (الريددندرين) حول العالم، ولكن تبعاً لما هو معروف فإن هناك اثنين فقط أو ثلاثة من تلك الأنواع تمتلك مادة الـ(grayanotoxin) في رحيقها.

يعد شمال تركيا موقعاً ملائماً لنمو هذه الأنواع من الأزهار، وهذا الموقع يضمن أيضاً عدم نمو أي نوع آخر من الأزهار، وبذلك يكون العسل الناتج صافٍ وغير مخلوط مع أي نوع من أنواع الرحيق الأخرى، وعلى الرغم من أن الكمية التي يتم فيها إنتاج عسل الجنون هي كمية صغيرة بالمقارنة مع كميات العسل التي يتم إنتاجها في المنطقة، إلّا أن هذا العسل يعتبر أحد المواد التقليدية التي يتم تناولها في تركيا على نطاق واسع ومنذ زمن بعيد، حيث يعتقد السكان هناك بأن هذا العسل يمتلك فوائد طبية طبيعية، فهم يستخدمونه لعلاج ارتفاع ضغط الدم وداء السكري وبعض أمراض المعدة المختلفة، كما أن بعض الأشخاص يستخدمونه للتحسين من أدائهم الجنسي.

معظم النحالين يترددون في بيع هذا العسل للغرباء، فعلى الرغم من أن السكان المحليين يعرفون كيفية استهلاكه بشكل مسؤول ويعرفون متى عليهم التوقف عن تناوله، إلّا أن السياح أو المشترين الآخرين عادة ما يقعون في فخ عسل الجنون، والجدير بالذكر أن استهلاك هذا العسل لا يعتبر أمراً مخالفاً للقانون في تركيا، كما ويمكنك أيضاً شراؤه عبر الانترنت في بعض الحالات.

ولكن من جهة أخرى، فإن الخبراء يحذرون من شراء عسل الجنون عبر شبكات الانترنت للعديد من الأسباب، أهمها هو التعرض للخداع، وإضافة إلى ذلك هو إمكانية التعرض للخطر جراء تناول هذا العسل، فليست جميع أنواع عسل الجنون تصنع بذات الطريقة، حيث أن هناك بعض الأنواع التي يمكن أن تكون أقوى من غيرها، وخاصة خلال فصلي الربيع والصيف، ففي هذه الأوقات يكون العسل طازجاً ويمكن أن يحتوي على نسب أكبر من مادة الـ(grayanotoxin).

أخيراً، تجدر الإشارة إلى أن النحل لا يتأثر بعسل الجنون، حيث يشير (براينت)، إنه على الرغم من أن الرحيق الذي يقوم النحل بجمعه من بعض الزهور يمكن أن ينتج عسل يمتلك تأثير مخدر وسام بالنسبة للإنسان، إلّا أنه لا يكون ضار بالنسبة للنحل أو ليرقاته.

 

شارك
نشر المقال:
فريق التحرير