التصنيفات: غير مصنف

جسيمات النيوترينو وجائزة نوبل للفيزياء عام ٢٠١٥

 الكاتب: يوسف البناي
أعلنت الأكاديمية السويدية الملكية للعلوم أن جائزة نوبل للفيزياء لعام 2015 ستكون من نصيب الياباني تاكاكي كاجيتا والكندي آرثر ماكدونالد، وذلك لإثباتهما ظاهرة تذبذب جسيمات النيوترينو. لكن ما هو جسيم النيوترينو؟ وماذا يعني أنه يتذبذب؟ ولماذا التذبذب يثبت بطلان الإعتقاد السابق الذي ينص على عدم وجود كتلة للنيوترينو.

ماكدونالد و كاجيتا، الحاصلان على نوبل للفيزياء لعام 2015

من المعروف أن كل شيئ يتحلل، والسبب هو أن الذرات نفسها تتحل. وعندما تتحلل الذرة فإنها تتحول إلى ذرة أخرى. ودائما ما يصاحب ذلك التحلل إطلاق جسيمات تسمى “بيتا”. هذه الجسيمات ليست سوى إلكترونات سريعة، وهنا تأتي القصة. لقد كانت هناك مشكلة في قانون حفظ الطاقة، فالإلكترونات المنطلقة كان من المفترض أن تكون سريعة جدا. لكنها كانت أبطأ كثيرا مما هو متوقع! تصور أن هناك شاحنة ضخمة مسرعة اصطدمت بدراجة نارية. سنتوقع أن تطير الدراجة النارية بسرعة كبيرة جدا لأن الشاحنة نقلت جزء من طاقتها إلى الدراجة. لكن تصور أن الدراجة بعد الإصطدام لم تتحرك سوى مسافة قصيرة وبسرعة بطيئة جدا!! ستكون صدمة كبيرة! أين ذهبت طاقة الاصطدام التي نقلتها الشاحنة للدراجة؟! هذا خرق واضح لمبدأ حفظ الطاقة المقدس! هذا ما حدث مع انحلال الذرات، كانت الالكترونات بطيئة جدا.

بدأ التشاؤم يخيم على الفيزياء في ذلك الوقت، وبدأت الأصوات بأن قانون حفظ الطاقة غير ساري في انحلال الذرات!! لقد بدأ صرح الفيزياء يهتز. لكن ثعلب الفيزياء النظرية وولفغانغ باولي أبى أن يهتز عرش الفيزياء، فتدخل بحل عبقري يعكس دهاء باولي. إن الدراجة النارية لم تطر بعيدا، لكن هناك قطع بالدراجة قد طارت بعيدا وأخذت، بطريقة ما، كل طاقة الشاحنة دون أن نشعر. لابد أن هناك جسيم طار بدل الإلكترون ولم تصطاده أجهزتنا. هذا الجسيم هو “النيوترينو” الملقب بالشبح. لم يصدق أحد باولي، لكن بعد فترة من الزمن تم اصطياده، وصدقت تنبؤات باولي. ولأن النيوترينو يشبه جسيم النيوترون، فهو غير مشحون وله خصائص أخرى مشابهة للنيوترون، فقد سماه العالم الإيطالي انريكو فيرمي بذلك الإسم والذي يعني بالإيطالية النيوترون الصغير.

يأتي النيوترينو في ثلاثة أنواع أو نكهات، وليس للموضوع أي علاقة بالطعام. هناك نيوترينو نوع إلكترون ونوع ميون ونوع تاو. النيوترينو هو ثالث أكثر الأشياء انتشارا في الكون بعد الفوتونات والغباء البشري. تقريبا يمر ١٠٠ مليار نيوترينو الآن في ابهامك! لكن ربما فقط يتفاعل واحد أو اثنين مع ذرات جلدك طوال عمرك! الغالبية العظمى من النيوترينوات تأتي من أكبر مصنع نووي مجاور لنا؛ الشمس. هناك أربع قوى في الكون، الجاذبية التي تجذبك الآن، الكهرومغناطيسية وهي مألوفة أيضا، وأخرتان غير شائعتان، النووية القوية والضعيفة. النيوترينو جسيم خامل جدا، لا يتفاعل إلا مع القوى الضعيفة فقط. لذلك هو يمر من الأرض ويخرج من الجهة الأخرى وكأنه لا يوجد شيئ! أيضا لو وضعت قطعة حديد ممتدة من الشمس الى الأرض فإن أكثر من ٪90 النيوترينوات ستمر! لذلك لا عجب أن أحدا لم يلاحظ وجوده في أيام باولي. إنه شبح فعلي.

كان أول من اصطاد جسيم النيترينو هو ريموند ديفيس في عام ١٩٦٨. فقد ملأ خزان ماء ضخم بالكلورين، وعندما تصطدم النيوترينوات القادمه من الشمس بذرات الكلورين فأنها تتحول إلى ذرات آرغون. ولأن النيوترينو كما قلنا جسيم ضعيف التفاعل جدا، قضى ديفيس أشهرا في التجربة. لفد كان يصطاد ذرة آرغون واحدة كل يومين!! هل تعلم مدى جنون هذا الرقم! تخيل أن الخزان  كا يحوي على ٩ مليون مليون مليون مليون مليون  ذرة كلورين، وكل الذي اصطاده ديفيس من ذرات آرغون (تفاعل النيوترينو مع ذرات الكلورين) كان ١٠ ذرات فقط!!! لقد كانت هناك مشكلة حقيقة في هذا الرقم. فهو أقل بكثير جدا من الرقم المتنبأ به نظريا، و الذي نأخذه من النموذج المعياري للشمس. اعتقد كثيرون أن هناك خطأ في تجربة ديفيس، لكن تم اعادة التجربة وبشروط مختلفة، والنتيجة واضحة؛ هناك نيوترينوات لم تصل الأرض! أين ذهبت؟ لقد أصبحت تلك مشكلة جدية وباتت تعرف بإسم “مشكلة نيوترينو الشمس neutrino solar problem”.

ريموند ديفيس يسبح في خزان الماء المملوء بالكلورين، الذي اصطاد به النيوترينو

في نفس العام، ١٩٦٨، اقترح العالم الأيطالي برونو بونتيكورفو حل جميل جدا لهذه المشكلة. أن النيوترينوات تخدعنا. إنها تتحول من نوع إلى آخر أو تغير هويتها. تذكر أن هناك ثلاثة أنواع من النيوترينو (إلكترون، ميون، تاو) من الممكن أن يبدأ أحدهم رحلته من الشمس كنوع إلكترون، لكن وفي منتصف الطريق يغير نوعه إلى ميون أو تاو ومن ثم يعود مرة أخرى الى إلكترون! هذا التغيير في النوع يسمى “تذبذب النيوترينو” Neutrino Oscillatio لأنه يشبه تذبذب البندول، فالبندول يغير موضعه ثم يعود مرة أخرى لنفس مكانه بعد إتمامه دورة كاملة. ولأسباب رياضية، لابد أن يكون للنيوترينو كتلة إذا كان يغير نوعه.

برونو بونتيكورفو

أتى الإثبات الأول لظاهرة تذبذب النيوترينو عام ١٩٩٨ من المرصد الياباني الضخم المعروف بإسم سوبر كاميوكاندي Super Kamiokande. كان الفريق بقيادة  تاكاكي كاجيتا. وفي عام ٢٠٠١ أيضا أتى إثبات للتذبذب من مرصد سودبوري الكندي  للنيوترينو، وكان الفريق بقيادة آرثر ماكدونالد.

مبروك ل تاكاكي كاجيتا و آرثر ماكدونالد للفوز بجائزة نوبل للفيزياء لعام ٢٠١٥. ومما هو جدير بالذكر أن ريموند ديفيس نال جائزة نوبل للفيزياء عام ٢٠٠٢ مع عالمين آخرين. أما برونو بونتيكورفو، صاحب نظرية التذبذب الأساسية فلم ينل جائزة نوبل! فقد توفى عام ١٩٩٣. ومات ديفيس عام ٢٠٠٦، بعد ٤ أعوام من منحه الجائزة.

يقول فاينمان إن المتعة الحقيقة هي متعة إكتشاف الأشياء وليس متعة الجوائز.

شارك
نشر المقال:
فريق التحرير