التصنيفات: غير مصنف

المتحكمات القزمة microRNAs

عالم الأحياء الجزيئية بجماله وتعقيداته يشبه إلى حد كبير عالم الفضاء، فكل يوم يطرأ على هذا العالم اكتشافات جديدة ويجتهد علماء الأحياء الجزيئية تماماً كعلماء الفضاء بتطوير مسابير وتقنيات تغوص في عالم الخلية الحية، والتي سميناها في مقال سابق المدينة الصناعية التي لا ترى بالعين المجردة.

ربما معظمنا درس على الأقل في المرحلة الأساسية عن الدنا DNA  وتركيبه وتعلمنا إن هذا الحمض الرايبوزي منقوص الأوكسجين يجب أن يمر في مراحل عدة من نسخه إلى الرنا المرسال RNA ، ثم ترجمته إلى ببتيدات وبروتينات مفيدة لها وظائف مختلفة في الجسم، من إنقسام الخلية إلى تطور الأجنة والأعضاء الداخلية والعمليات العصبية والتفكير والأحلام وغيرها، كلها تسبح في درب الأحياء الجزيئية.

وحتى يسود التوازن والنظام في الخلايا، توجد صمامات تحكم متخصصة حسب العملية الحيوية وعلى مستوى البروتين الواحد ، فتعمل إما على تسريعها إذا استدعى الأمر أو إيقافها.

وزخر القرن الماضي في اكتشاف هذه الصمامات كل على حدى وبتنافس كبير بين العلماء، ووثقت وظائفها على المستوى الخلايا الطبيعية والخلايا المريضة، حتى خرائطها الجينية غدت جاهزة وفي متناول الجميع في معظم قواعد البيانات العالمية.

ولكن في عام ١٩٩٠ تم اكتشاف إحدى الصمامات والتي توقع البعض إن وجودها في الخلايا بلا فائدة وربما ما هي إلا بقايا RNA  جراء عمليات النسخ والترجمة، وتفاجأ العلماء بأن هذا الجزيء الصغير، المكوّن من ١٩ – ٢٥ قاعدة نيوكليوتيدية، وظيفته عظيمة، ويدخل في معظم وظائف الخلية الحيوية، ووثق أول بحث ذلك بعد عشر سنوات من اكتشافها تقريباً.

وأطلق عليه اسم microRNA ودعني أُطلق عليه في هذا المقال اسم المتحكم القزم !

في عام ٢٠٠٦ اشتعلت مراكز ومواقع أبحاث الأحياء الجزيئية في عرض وظائف هذا المتحكمات القزمة وفي كل منها اكتشاف لفرد جديد ينتمي إلى هذه العائلة، وأخذت تثبت دورها في الحياة والمرض، ومن أشهر الأبحاث تلك التي ربطت زيادة معدل هذه الأقزام أو نقصانها بالسرطان ولدرجة تخصصت بعض هذه الأفراد بأنواع معينة من السرطان.

تبدأ ولادة هذا القزم في النواة ولكنه يولد طويلاً بعض الشيء، وحتى يدخل مرحلة النضوج والوظيفة، يُقص جزء كبير منه في النواة عن طريق إنزيم خاص به يعرف بـ (دروشا) ويتم شحنه بواسطة ناقلات الإكسبورتين الخاصة من خلال الثقوب النووية إلى الفضاء السيتوبلازمي، وهناك يتم تقصيره من خلال إنزيمات أخرى تعرف بـ( ديسر)، وحتى يصبح ناضجاً تماماً لتسلم وظيفته الخلوية، يتم فكه إلى سلسلة واحدة ناضجة أيضاً بفعل أنزيمات التفكيك.

ولأن وظيفة هذا القزم محددة بوجود بؤرة خصبة في سلسلته تعرف بـ Seed sequence  يبحث عن السلسلة رناRNA  (الجين) المكملة لبؤرته، وعند اتحاده بهذه السلسلة يبطل مفعولها ويمنع عملية الترجمة وبالتالي يوقف إنتاج أحد البروتينات.

ومن عجائب هذه المتحكمات القزمة إنها قد تتحكم في مئات الجينات، وجين واحد ممكن أن تتحكم فيه مئات المتحكمات القزمة.

ومن الجدير بالذكر إن بعض هذه المتحكمات تكاد تكون متطابقة مع نظيراتها في الإنسان والحيوان والنبات وحتى بعض الأوليات، وفي الإنسان تم إكتشاف ما يقارب ٢٨٠٠ متحكم قزم، ومن أشهرها المعروفة بـ miR-200  التي لها دور كبير في سرطان الكبد والقولون .

حتى عامنا هذا مازالت هذه المتحكمات القزمية تعتلي أبحاث الهندسة الجينية والطبية، وأصبحت مفاتيح لفك ألغاز العديد من الأمراض، و في فهم ميكانيكية مقاومة العلاج الكيميائي في بعض السرطانات ومنها العديد غدا دليلاُ حياً للكشف عن السرطان وطرق حسره وإيقاف التمدد، ومازالت الأبحاث مستمرة في فضاء الخلية الواسع وفي كل يوم يتم الكشف عن مكنونات جديدة لم تخلق عبثاً، فسبحان الخالق في بديع خلقه.

شارك
نشر المقال:
علياء كيوان