أخبار العلوم

بعيون بريطانية وتنفيذ مصري: الطبيعة تشارك في حل أزمة المياه

الطبيعة، المفتاح الأول للثورات العلمية والمعرفية بشكل عام. فكثيراً ما كانت مصدر الإلهام الأول لحل العديد من المشاكل، فعندما عرفنا بأن البكتيريا تستطيع الدفاع عن نفسها من خلال نظام مناعي معقد؛ كانت تقنية “كريسبر كاس -9” وليدة تلك المعرفة. والتي أحدثت ثورة في التعديل الجيني وأصبحت ركيزة أساسية في علم الأحياء والهندسة الوراثية. ولما كانت أجسادنا تمتلك القدرة على التمييز بين المركبات العضوية المتشابهة كانت تقنية “التحفيز العضوي غير المتماثل” نقطة الانطلاق التي أحدثت ثورة في عالم صناعة الأدوية. فأصبحت عملية إنتاج الأدوية التي كان يستحيل إنتاجها في الماضي بكميات كبيرة موجودة الآن وبفاعلية أكثر وتكلفة أقل بكثير.

اليوم نتحدث عن مشكلة لا تقل أهمية عن مشكلة التغير المناخي التي يواجها العالم. مشكلة سيعاني منها 5.7 مليار شخص حول العالم بحلول عام 2050 كما صنفتها الأمم المتحدة في تقرير منشور عام 2018. تلك المشكلة تتعلق بالمياه النظيفة التي زاد الطلب عليها مع النمو السكاني والأنشطة البشرية في الفترة الأخيرة، والتي تقدر بنحو 600% زيادة في المئة عام الماضية فقط!

إقرأ: منجم في مصر يستخدم الكهرباء الشمسية لاستخراج الذهب

أزمة ترفع مؤشرات الخطر وتعجل بالحل

مع تلك الأزمة العالمية كان لمصر جزءا آخر من أزمة محورية متعلقة بمياه النيل. أزمة سد النهضة الذي يهدد بشكلٍ مباشر حصة مصر في النيل، تلك الأزمة التي كانت مفتاح لضخ استثمارات بحوالي 134 مليار جنيه من الدولة لعمل محطات تحلية للمياه في أماكن مختلفة كخطة مستقبلية حتى 2050.

كانت هناك عدة معوقات في بناء تلك المحطات منها التكلفة الإنشائية المرتفعة جداً وتكلفة الموارد التي سيتم من خلالها إدارة تلك المحطات. فضلاً عن، استغلال الشركات المسئولة عن تلك المحطات في عمليات الصيانة وقطع الغيار. فكانت محصلة كل ذلك هو أن إنتاج 1 لتر من الماء سيكلف الدولة 18 جنيهاً مقارنة بمياه النيل التي تكلف الدولة بين 2.5:4.5 جنيه للمتر المكعب – المتر المكعب 1000 لتر-… فكان السؤال: كيف يمكن العمل على إنشاء محطات تحلية مع تخفيض تلك التكلفة؟

خلايا الأشجار تمتص الماء

جميع أنواع المياه ليست خالصة 100% بل هي عبارة عن ماء وبداخلها بعض الأملاح كالمغنيسيوم والكالسيوم والصوديوم والبوتاسيوم. تلك الأملاح تشُكل نوع المياه (جوفيه، أمطار، أنهار، بحيرات، بحار) وتختلف نسب تلك الأملاح حسب كل مصدر. قم بخلط كوباً من ماء البحر مع كوباً من ماء الصنبور سوف تنتشر تلك الأملاح الموجودة فيهما بشكلٍ عشوائي حتى يصبح هناك توازناً في توزيع تلك الأملاح داخل الوعاء. فأغلب الأنظمة الموجودة في الطبيعة تميل للاستقرار بطبيعتها.

 

صورة توضح انتقال جزيئات الماء من التركيز الملحي الأقل إلى التركيز الملحي الأعلى

أما لو أحضرت وعاء آخر ووضعت غشاء شبه منفذ في المنتصف يسمح بنفاذ الماء وأحضرت نفس الأكواب السابقة بكميات متساوية؛ ستلاحظ تحرك الماء العذب (ذو التركيز الملحي الأقل) نحو الماء المالح (ذو التركيز الملحي الأعلى وبالتالي أقل من الماء مقارنة بالماء العذب) حتى نصل لنقطة توازن يتوقف فيها الماء عن التحرك عندما يتساوى تركيز الأملاح على جانبي الغشاء. تلك هي طريقة امتصاص الماء لدى الأشجار جميعاً. ينتقل الماء من التربة (ذات التركيز الملحي الأقل) إلى خلايا النبات (ذات التركيز الملحي الأعلى) وتسمي بالأسموزية أو التناضح.

في حالة عكس تلك العملية، أي انتقال الماء المالح للماء العذب في وجود الغشاء نسمي تلك العملية بالأسموزية العكسية أو التناضح العكسي. وتحدث في وجود مؤثر خارجي لأن الماء هنا سوف ينتقل عكس التيار الذي يجعله متوازناً مع الوعاء وليكن الضغط مثلاً.

نقدم لك: هل ستشكل الأزمة الأوكرانية نهاية الوقود الأحفوري؟

نظام تحلية يعمل بالتناضح العكسي

يقول أ.د حسام الدين الناظر المسئول عن المشروع من الجانب المصري والباحث في المركز القومي للبحوث

الفكرة في البداية كانت الرغبة في صناعة تكنولوجيا مصرية بمواد رخيصة الثمن يمكن الاعتماد عليها. فلم نجد أفضل من الجانب البريطاني وهم معروفين جداً في مجالات تحلية ومعالجة المياه على مستوى العالم.

ويضيف على ذلك بأنه قد بدأ البحث عن مدير للمشروع من الجانب البريطاني حتى وجد البروفيسور”  Philip Davies” احد أكبر الخبراء في تحلية ومعالجة المياه على مستوى العالم بجامعة بيرمنغهام ببريطانيا. وأنطلق التعاون المصري – البريطاني في العام الماضي لجمع التصاميم وتنفيذ الخطة بتمويل من صندوق نيوتن مشرفة التابع للمجلس الثقافي البريطاني وصندوق العلوم والتكنولوجيا من الجانب المصري ودعم من شركة أجيسكو الخاصة المصرية لإنشاء الوحدة.

تعمل المحطة بشكل أساسي من خلال ذلك المبدأ البسيط – التناضح العكسي- المعروف الذي تعمل به الآن العديد من محطات تحلية المياه كمرحلة رئيسية في مراحل التحلية ويمكن شرح تلك المراحل في ثلاث مراحل أساسية.

المرحلة الأولى: من خلال معالجة المياه من الملوثات المعلقة (Suspended particles) كالحبيبيات الصغيرة وبعض الشوائب الغير ضرورية الذائبة في الماء من خلال ترسيب الجزيئات أسفل المضخات. ومن ثم التخلص منها ليتبقى الماء – الأمر أشبه بطريقة فصل المنخل لجميع المكونات الموجودة بالدقيق مثلا ً – وتلك العملية تعرف بالترسيب.

المرحلة الثانية: التخلص من الملوثات العضوية والبكتيريا غير المرغوب فيها من خلال المحفزات الضوئية التي تعمل لتنقية الماء من خلال الضوء. يقول الدكنور أحمد بيومي الباحث في قسم الكيمياء جامعة حلوان عن طبيعة تلك المحفزات.

“لو قمت بتعريض المحفزات الضوئية للضوء تخرج مركبات radicals. قادرة على تكسير الملوثات العضوية في الماء وتحوليها إلى ثاني أكسيد الكربون وماء”

وهكذا يتم التخلص من جميع المواد العضوية السامة الموجودة في الماء بسهولة.

المرحلة الثالثة: تقليل الأملاح من الماء من خلال خاصية التناضح العكسي التي تتم بضغط الجزء ذو التركيز الأعلى في الأملاح لينتقل من خلال غشاء شبه منفذ يسمح بنفاذ الماء وليس الأملاح فنحصل على مياه نقية صالحة للشرب والري.

فيديو توضيحي للتناضح العكسي.

تكلفة أقل وجهود مُثمرة

صورة داخل المحطة يتواجد بها رئيس المشروع من الجانب المصري أ.د حسام الدين الناظر

كالعادة لم يترك الفيروس أحد، فقد تمت جميع الجلسات لتنفيذ خطة المشروع عبر الإنترنت على مدار السنة الماضية. ومع إدخال بعض التعديلات على النظام التي تتعلق بالخامات والموارد. فضلاً عن استعمال الطاقة الشمسية كمصدر للكهرباء مما يجعل المحطة قابلة للتنفيذ في الأماكن التي لا يوجد بها مصدر دائم للكهرباء. اكتمل تنفيذ المحطة بنسبة 90% تقريباً – على لسان رئيس المشروع من الجانب المصري – وسيصبح لدينا محطة تحلية تنتج مياه نظيفة بتكلفة أقٌل من المعروف بنسبة 40 : 50 % ما يعادل بين 9 و 8 جنيهات للمتر المكعب الواحد.

ملحوطة: ذلك التصريح كان في نهاية نوفمبر 2021.

في النهاية، قد يكون البحث العلمي بعيداً عن الصناعة. لكن لا شك بأنه حينما يطُبق لإيجاد حلول لمخاطر تهدد المجتمع تتغير الموازين ويشعر الجميع بأهمية العلم في التغلب على العقبات. وتظل الطبيعة هي الملجأ الأول وأساس القاعدة للباحثين لخلق أرضية صلبة تكون نقطة انطلاق لتغيير وتحسين مسار دول بأكملها.

 

 

شارك
نشر المقال:
أحمد عصمت