سلسلة عمران

من موسيقى الماتورات إلى أوقاف التقنية والعلوم.. تأملات “سيد دسوقي” في الهندسة والقرآن!

حالم يكن سيّد دسوقي مُجرد مُهندس، ليس لأنه حاصل على الدكتوراة ويعمل كأستاذ في هندسة الطيران بجامعة القاهرة، فما أكثر الأستاذة وحملة الدكتوراة.. وليس لأنه كاتب ويكتب عن التنمية الصناعية، فهؤلاء كذلك كُثر.. أما سيّد دسوقي فقد برز اسمه في عالم الفِكر بسبب تأملات “الحضاريّة” في القرآن الكريم وريادته في مجال “التفسير الحضاري” ثم استغلاله لكل هذه الثقافة القرآنية والعلوم الهندسية التي اكتسبها ليضع رؤيّته للنهوض بالصناعة في بلادنا، كافرًا بالألقاب الجامعية تارة وداعيًا إلى تأسيس هيئة لوقف لدعم الأبحاث “النافعة” ومُكافحًا ضد اولئك الذين اغتالوا فينا حُب الانتاج وجعلوا فينا القابلية في الاستعمار.. ويؤكد لنا أن الخطوة الأولى على درب التصنيع تكمن في “هندسة الصيانة” فهي المعمل الحضاري الأول وفيها الأمل الأكبر للحاق بالركب!

 

وقف التنمية التقنيّة..!

لطالما كان “الوقف الخيري” من أرقى الأعمال الذي ساهمت في تميّز الحضارة الإسلامية، والأجمل حين نجد معشر المؤرخين يتحدثون عن وقف لخدمة القطط الضالة أو الحمير التي لم يعد ينتفع منها أحد هذا غير الأوقاف التي خدمت المرضى وعابري السبيل، ومع أن هذه الأوقاف تكون تكون نسيًا منسيًا إلا أن “دسوقي” يُذكرنا بشكل مُختلف من أشكال الوقف.. وهو وقف للتنمية التقنية، لدعم كُل من يسعى بالنهوض بلاده علميًا وتقنيًا.

يقول “دسوقي” في كتابه “رؤى إسلامية في التنمية التقنية المستقلة”: “أذكر أنني في صباي أتممت دراسة الدكتوراة في جامعة عظيمة هي جامعة “ستانفورد” الأمريكية، وهي جامعة خاصة ينفق فيها الطلبة الأذكياء الأغنياء على الطلبة العباقرة الفقراء، هذه الجامعة بأسرها وبآلاف الفدادين من هضاب “كاليفورنيا” الجميلة كانت تبرعًا من فرد واحد هو “مستر ستانفورد”، مات ولده في حادث، فأوقف كل ما يملك على إنشاء هذه الجامعة”. ثم يُكمل ليوضّح: “الأمة الإسلامية هي التي اخترعت فكرة “الوقف” كآلية تنموية عظيمة. وفي العصر الحديث عندما شعر الخديوي إسماعيل بدنو الأجل وهو في الأستانة أوقف كل ما يملك على مدرسة ومستشفى في حلوان، وكتب وصية رائعة، أحفظ منها هذا الشطر: “وهذا آخر سهم مال أطلقه في سبيل الله، ولم يبق لي من متاع الحياة الدنيا الزائل إلا ملابسي التي أستر بها جسدي…”.

وضمن جهوده في هذا الباب، نجده قد نشر بالتعاون مع ثلّة من أصحابه “تصور لهيئة للوقف التنموي على العلوم والتكنولوجيا” وفيه تأكيد على أن هذا الوقف سيُركز على دعم تطوير الصناعات الغذائية والدوائية والطاقة الشمسية والرياح بالإضافة إلى معدات استخراج المعادن والبترول وبالتالي فإن الدعم لن يكون عشوائيًا، ولن يكون لأبحاث نظريّة بحتة.. إنما لأبحاث وعلوم تحتاجها الأمّة في هذه الآونة بالذات.

العلم.. ليس مُجرد مُعادلات ونظريّات!

فلسفة “دسوقي” بالنسبة للبحث والتقنية، تتجلى في حكاية حصلت له مع طالب يدرس الماجستير جاءه لغرض بحثي في موضوع التصميم الأمثل للهياكل، فلاحظ أن تركيز الطالب مُنصب على المقارنة بين المعايير الرياضية وتجريبها على الحاسب، فما كان منه إلا أن قال له:

..ماذا لو بدأت تفكر في التصميم الأمثل لهيكل مكتب صغير للتلاميذ… كلنا نريد مكاتب لأبنائنا للاستذكار وما هو معروض في الأسواق ليس مثاليًا في شيء.. لا في المساحة التي يستخدمها ولا في قدرته التخزينية ولا في طوله وعرضه… مجرد مكتب صنعه نجار جاهل بكل المتطلبات الحيوية لهذا المكتب؛ لأنه أصلا لا يعرفها ولم يجلس للاستذكار يومًأ ما على مكتب..وماذا لو بحثت في تصميم هذا المكتب من مجموعة من العناصر يمكن ضمها جميعًا في صندوق ومعها خردواتها بحيث يستطيع الطالب بشيء من التوضيح في كراسة مرافقة أن يجمع هذا المكتب في البيت حتى يتدرب ويعمل ويكون ذلك درسًا من دروس حياته..”

هذه الأفكار، لم ترق للطالب الذي يتصور العلم معادلات وحاسبًا آليا ونظريات معقدة لا يفهمها أحد.. وحمل نفسه وانصرف دون تعقيب.

هذا المقال من ضمن سلسلة عُمران

الهندسة والاستحمار … عندما نفصل الفكر عن الهندسة

الجفت.. وقود من بلاد الزعتر والزيتون

كيف يُمكن لمشروع هندسي أن يُساهم في توحيد الأمّة؟ الخط الحديدي الحجازي نموذجًا!

كيف للعلم أن يُدمرنا؟ تأملات في الفِكر والهندسة!

من مكة إلى لاس فيغاس.. كيف غيّرت فنادق مكّة مفهومنا عن الحج؟

المقاومة بالطاقة الشمسية.. كيف يُمكن للشمس أن تتحول لوسيلة صمود؟

من موسيقى الماتورات إلى أوقاف التقنية والعلوم.. تأملات “سيد دسوقي” في الهندسة والقرآن!

 

التقليد واستنباط التكنولوجيا

لم يكن ذلك الطلاب حالة شاذّة، فالكثير من الطلبة في بلادنا غالبًا ما ينشغلون بقضايا بحثيّة لا تمت لواقعهم بصلة، فإما أن تجدهم يبحثون في قضايا “سهلة” تجعلهم يتخرجون دُون تعب أو تجعلهم يستغرقون في قضايا “ساخنة” على الساحة الغربية.. قد تفتح لهم أبواب في الجامعات الاوروبية والامريكية لاحقًا، وبالتالي فإن الطالب الذي يدرس موضوع من أجل حاجة بلاده هو عملة نادرة فعلًا.

من أبرز الحكايات التي يسردها د.دسوقي ليعكس لنا عواقب هذه السلوكيّات هي حكاية الطالب الياباني قرأها في مجلة أكتوبر القاهرية يحكي الدكتور حسين مؤنس. “كان مبعوثًا في أوائل هذا القرن للحصول على الدكتوراة في الهندسة، ثم وجد نفسه يضيع وقته وجهده في دراسات نظرية لا طائل منها، وكيف أنه وزملاءه المبعوثين أغرقوا أنفسهم في المعادلات والتحليلات فقرر بينه وبين نفسه أمرًا، سأل نفسه: ما هو مفتاح التكنولوجيا الغربية في هذا الوقت؟ وأجاب بأنه الموتور

ويكمل: “اشترى موتورًا من ماله الخاص الذي يأكل به وعكف عليه يفكه قطعة قطعة، وكلما فك قطعة رسمها ورقمها حتى فك الموتور كاملا، ثم أعاد تركيبه وأعاد ذلك عدة مرات حتى أدرك كل أجزاء الموتور ووعاها، ثم عاد للكتب يتفقه في بعض النظريات الحاكمة لعمل الموتور، وأراد بعد ذلك أن يعمل في بعض المصانع التي تصنع الموتور، فذهب إليها عاملا يكتشف في هدوء أسرار صناعة الموتور ودقائقها. ولما أيقن أنه يعرف أسرار هذه الصناعة وما بقي إلا أن ينقلها لليابان كتب للملحق الثقافي الياباني بقصته، فنقلها هذا بدوره لوزير التعليم الذي نقلها للإمبراطور، وبعث له الإمبراطور بخمسة آلاف جنيه ليشتري كل ما يلزمه من معدات لصناعة الموتور الياباني، ولما فرغ من مهمته بعد عدة سنوات ذهب لزيارة الإمبراطور ومعه عينة من هذه الموتورات التي استمع إليها الإمبراطور في نشوة قائلا: هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي”.

يقول سيّد دسوقي عن هذا الطالب: “هذا الياباني العظيم لم يعد لليابان بالدكتوراة، وإنما عاد إليها بعزتها ومجدها.. عاد إليها بتقليد مفتاح الصناعة الأوروبية، وعاونه على ذلك الملحق الثقافي ووزير التعليم والإمبراطور، ولم يحاولوا أن يخذلوه أو يتهموه وإنما ساعدوه وشجعوه..لقد أدرك هذا الياباني أهمية التقليد الصناعي؛ فترك من أجله الدكتوراة”.

ناقة الانتاج

بينما تتحدث اليابان عن صناعة الماتورات، فإننا نجد أسواقنا غارقة في السلع المستوردة من كُل جانب، من السبحة الاليكترونية إلى الأقمار الصناعية، فهم على حد تعبير “دسوقي” يحاصرونك من أدنى التكنولوجيا إلى أعلاها ؛ حتى يصرفونك عن مبدأ “مما صنعت يديك” إلى “مما صنعت أيديهم”.

وللدسوقي، وهو أستاذ ودكتور في هندسة الطيران والفضاء، كان يطمح لبناء أقمار صغيرة بأيد مصريّة، وذات مساء بينما هو يقرأ في صلاة العشاء قوله تعالى: ( كذبت ثمود بطغواها ..  إذ انبعث أشقاها .. فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها .. فكذبوه فعقروها .. فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها .. ولا يخاف عقباها )،  راح يستحضر علاقة الطغيان بالهندسة والعلم فيقول: “الطاغية بطبيعته لا يحب الأتقياء العلماء أن يكونوا حوله ، يحب من يزين له طغواه ويمتدح عبقريته آناء الليل وأطراف النهار .. وهذا هو لب الفساد في عملية الطغيان .. ليس فقط في طبيعتها الكريهة ، ولكن لأنها طاردة للكفاءات المخلصة ، جالبة وباعثة للأوغاد واللصوص والخونة فينبعثون كالفراش المبثوث ، ويحولون مجتمعاتهم إلى عهن منفوش”.

وقد يتسائل القارئ، ما علاقة هذا ببناء الأقمار الصناعية؟ ولكن سيّد دسوقي لا يلبث حتى يسألنا: وما الناقة ؟ ليجيب: “..أليست هي وسيلة الإنتاج الأساسية التي تملكها ثمود؟ .. تحملهم من مكان إلى مكان، وتعطيهم الألبان،وعندما تعجز عن ذلك يأكلون لحمها. ولكن الأشقياء يريدون العاجلة ولا يريدون الآجلة .. يريدون لحمها الآن ولا يريدون أن يصبروا على التنمية”.

عندما يصل إلى نصيحة نبي الله لهم: (قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) يُفسرها لا نراه في كُتب التفسير غالبًا فيقول: ” أي خططوا نظامكم التنموي بحيث تخصصون جزءاًً للعاجل وتستبقون جزءاَ للآجل .. من أجل مستقبلكم أنتم ومستقبل أولادكم .. إنهم لا يريدون أن ينفقوا على التنمية ويصرون أن يقتلوها ويمنعوا شربها .. والشرب هو الذي يبقي الحياة، ومنع الشرب يقتلها. ولكن الثموديين القدامى أصروا على موقفهم ومنعوا الناقة شربها .. أي منعوا التنمية نصيبها ، فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها”. ثم يكمل موضحًا أهمية التخطيط السليم للتنمية بما يتلائم مع حاجات الناس فيقول: “وسبأ عندما أهملوا صيانة سدهم ، وقد كان هذا هو وسيلة إنتاجهم ، تشردوا في العالمين وباعد ربهم بينهم وبين أسفارهم. وكل أمة تهمل وسائل إنتاجها والتي هي جوهر تنميتها سوف يدمدم عليهم ربهم بذنبهم ويمحقهم”.

في الختام يصف اولئك الذين يُحاولون قتل روح الإنتاج فينا بأنهم “الثموديون الجدد” و “عاقروا ناقة الإنتاج”  ويدعو عليهم “ألا بعداً لكم كما بعدت ثمود …”

الصيانة هي الحل!

إن إهمال الإنتاج أو “اغتيال الانتاج” في بلادنا جعلنا نفقد البوصلة في طريقنا إلى التصنيع، ولكن الحل بحسب سيّد دسوقي هو العودة إلى الصيانة فهي المعمل الحضارة الأول لتعليم مبادئ التكنولوجيا وهي الخطوة الأولى، ومع ذلك فإن شعوبنا غافلة أشد الغفلة عن البحث في إقامة منظومة الصيانة وتشييدها… 

يقول دسوقي: “..انظر إن شئت إلى إحدى شركات الطيران العربية التي كانت قد اكتسبت مهارة صيانة وصلت بها إلى القيام بحوالي 70% من أعمال الصيانة الخاصة بطائراتها بقدرة ذاتية… ولكن الطائرات الحديثة وما أملته من شروط في الأمان والأداء انتكست بهذه الشركة من 70% إلى 20% من أعمال الصيانة.” 

أحد الأسباب التي أدت وتؤدي إلى هذا الإخفاق هي النظرة القاصرة للصيانة، فليس لها منظومة ولا إطار كما هو في الدول الصناعية حيث هناك اتجاهات في الصيانة فمثلًا: “هناك اتجاه يسمى اتجاه الزوالية فيما يتعلق بنزعة الإنسان الغربي إلى التغيير والتبديل والاستكثار، واتجاه الاعتمادية فيما يتعلق بالأمن والأداء في أدوات الحرب وسفن الفضاء”. ويذكر دسوقي حكاية طالعها في كتاب “الدبابات.. دقيقة وعظيمة Tanks are mighty fine things”  للعالم الأمريكي ويزلي ستون (Wesley Staut)، حيث يشير إلى أن “الاعتمادية” في صناعات الدبابات الأمريكية هي التي هزمت الألمان في الحرب العالمية الثانية.

يقول ستوت: لقد كان للألمان مهارات عالمية وعبقريات عظيمة ويملكون أحسن الأدوات وما كانت تنقصهم المواد، ولقد سبقونا في كثير من الأحوال في تحسينات أساسية… ومع ذلك فهم يعللون هزيمتهم نتيجة لتفوقنا العددي والمادي… ولقد كان لنا هذا التفوق المادي والعددي ولكن ذلك لم يكن السبب الوحيد…. إن دباباتنا كانت الأفضل.. وكانت الأفضل لأن الألمان ما تعلموا قط أن يفكروا من منطلق الاعتماد “Telialabitity” كما كنا نستخدم الكلمة للتعبير عن مبدأ أساسي “الأداء الأعظم مع الرعاية والتغيير القليلين”.

الهندسة وقابلية الاستعمار

وبعكس ما يُدرس في كليّات الهندسة، حيث يتم تصوير قضايا مثل الإنتاج والصيانة باعتبارها قضايا “هندسيّة” بحتة لا علاقة لها بالفكر، فإن مهندسًا مثل سيّد دسوقي كان قارئًا مميزًا للمُفكر مالك بن نبي كان يرى ارتباطًا وثيقًا بين قضايا الفكر والهندسة، وفي إحدى مقالاته بعنوان: “خواطر حول الفكر الحضاري لمالك بن نبي” يقول: “علمنا الأستاذ مالك أن هناك دائما زوجين متلازمين ومتعاونين، وهما الاستعمار وقرينته الشمطاء القابلية للاستعمار”.

هذه الكلمات تُلخص لنا الكثير من مشاكلنا من الهندسة والتصنيع، لإن “الاستعمار يهزمنا من خلال هذه القابلية المستكنة في نفوسنا، فتضعف من مقاومتنا وتجعلنا عبيدا نلهث وراء منتجاته هو، وتلهينا عن الصمود وراء قلاعنا التنموية والثقافية والسياسية”. وللتبسيط أكثر يسألنا سيّد دسوقي: “كيف نبني صناعة قوية ونحن نلهث وراء منتجاته؟ وكيف نبني زراعاتنا ونحن لا نطعم إلا ثمار زراعاته؟ وكيف تتطور ثقافتنا ونحن مغرمون بثقافاته؟ وكيف نقاومه ونحن راكعون أمام عتباته؟”

كعادة “دسوقي” يصحبنا في رحاب القران ليبحث عن وصف لهذه المُعضلة التي نعيشها فيجدها في قول الله تعالى: “إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استذلهم الشيطان ببعض ما كسبوا” ولا يتوقف هنا بل يبحث عن المخرج القرآني من هذه القابلية فيجده في قول الله تعالى: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”

شارك
نشر المقال:
عمر عاصي