الصناعة والإبتكار

مصعد الفضاء : كيف تساهم الهندسة الحيوية في جعله ممكناً ؟

جيلاً بعد جيل، يتعزز نهم البشر في صناعة هياكل ضخمة وأكثر إثارة للإعجاب بشكل كبير للغاية. فمن أهرامات مصر القديمة، إلى سور الصين العظم ووصولاً إلى برج خليفة في دبي – الذي يعد الأعلى في العالم الآن ( يصل ارتفاعه إلى قرابة 828 متراً). وكل هذا يأتي في خضم استخدام مبادئ الهندسة وتعزيزها إلى حدودها الأوسع.  على أي حال، فإن المباني الضخمة تلك لم تعد تمثل نصباً تذكارياً للطموح البشري فحسب، بل إنها قد تكون أيضاً، مفاتحاً للتقدم البشري في عصر الفضاء.

 

يجري في هذه الفترة تداول مقترحات متعلقة بإقامة برج ضخم أو ما يسمى “بمصعد الفضاء” ليصل إلى ارتفاع يوازي المدار المتزامن مع الأرض. برج كهذا سيكون بديلاً حقيقياً لرحلات الفضاء القائمة على الصواريخ وسيقلل بشكل كبير من كميات الطاقة التي يحتاجها الإنسان في سبيل الوصول إلى الفضاء. بل ومن منظور أوسع، يمكن لنا أن نتخيل هياكل فضائية عملاقة مدعومة بالطاقة الشمسية، تصل إلى كواكب كاملة أو حتى إلى بعض النجوم.

وخلال السنوات الأخيرة، تمكن المهندسون من بناء هياكل ضخمة جداً اعتماداً على قوة وموثوقية مواد كسبائك الصلب الجديدة. لكن، عندما ندخل في عالم الهياكل العملاقة – تلك التي يبلغ طولها 1000 كيلومتر أو أكثر-  يصبح الحفاظ على السلامة والإتزان تحدياً حقيقياً ومختلفاً للغاية. وهذا بسبب “الضغط الكبير” الناتج عن الحجم والوزن الهائل لهذه الهياكل العملاقة. ( الضغط هو مقياس للتوتر الميكانيكي، كما هو الحال عندما تسحب شيئاً ما من طرفيه إلى أقصى قدر ممكن، أو أن تضغطه بشكل عالي. وتعد ” القدرة” هي أقصى ضغط يمكن للهياكل أن تتحمله قبل أن تنهار).

وهنا يبرز التصميم البيولوجي، صاحب ال 3.8 مليار سنة من العمر كعامل خبير قد يساعد في حل هذا اللغز. فقبل عصر علم المواد، كان على المهندسين أن ينظروا إلى الطبيعة بحثاً عن الحيل الخلاقة التي من شأنها أن تساعدهم  في التغلب على القيود المفروضة على المواد التي بحوزتهم. فعلى سبيل المثال، عمدت الحضارات الكلاسيكية إلى استخدام أوتار ملتوية مصنوعة من جلد الحيوانات للوصول إلى آلات الحرب الخاصة بهم، والتي بدورها قدمت لهم مزايا الاستطالة والتمدد بما يسمح بإطلاق القذائف باتجاه العدو. لاحقاً، تمكن المهندسون من تطويع مواد كالصلب والحديد والخرسانة  والتي أصبحت أكثر قوة وأقل وزناً.

أدى هذا التطور، إلى وصول مفهوم جديد يعرف باسم “هندسة الموثوقية”.  حيث بدأ المصممون في صناعة هياكل قادرة على تحمل أوزان أضخم بكثير من تلك التي تحتاج المباني الأصلية لتحمله – وهو ما يعني أن الضغط على هذه المواد بقي في نطاق التحمل، وباتت احتمالية الانهيار قليلة للغاية.  وبمجرد الانتقال إلى فكرة الهياكل العملاقة، تظهر الحسابات أن هذا النهج “هندسة الموثوقية” والذي يكره المخاطر ويحاذرها و يضع حداً أقصى لحجم الهياكل نفسها. وبهذا، باتت الهياكل العملاقة تتمحور حول فكرة استخدام المواد المتاحة لأقصى طاقات تحملها، والابتعاد عن رفاهية تخفيف الأحمال في سبيل ضمان مستويات أوزان وضغط أقل.

على الطرف الآخر، لا تحظى عظام جسمنا بذلك الترف. فهي في الواقع يتم ضغطها وامتدادها إلى أقصى حد ممكن بحيث تقترب من احتمال الكسر أو الانهيار. ومع ذلك، فإن مكونات الجسم الأساسية هذه ما تزال “أكثر موثوقية”  بكثير مما توحي به قوتها المادية. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يؤدي الجري وحده إلى دفع وتر العرقوب إلى استخدام أكثر من 75% من قوة الشد القصوى الخاصة به. في حين يحظى رافعي الأثقال بتحمل ضغط يزيد عن 90% من قوة تحمل الفقرات القطنية في العمود الفقري حال رفعهم لمئات الكيلوغرمات.

كيف تتعامل البيولوجيا مع هذه الأحمال؟ الجواب يكمن في أن أجسادنا تعمل بشكل مستمر على إصلاح وإعادة تدوير المواد.  ففي الأوتار مثلاً، يتم استبدال ألياف الكولاجين التي تتعرض للضرر، فيما يبقى الوتر الكلي آمن. هذا الإصلاح الذاتي الثابت فعال وغير مكلف، ويمكن تغييره بناءً على الحمل الموجود. والحقيقة، أن جميع الهياكل والخلايا في أجسادنا تخضع لحالة دوران مستمر.  حيث تشير التقارير إلى أن ما يقرب من 98% من الذرات في جسم الإنسان تستبدل بشكل مستمر كل عام.

طبق هذا النموذج القابل للإصلاح ذاتياً مؤخراً بهدف محاول معرفة إذا ما كان ممكناً إنشاء مصعد للفضاء موثوق به باستخدام مواد معينة.  يمثل نموذج التصميم المقترح على كابل بطول 91 ألف كيلومتر، بحيث يمتد من خط الإستواء وينطلق إلى الفضاء بشكل متوازن. يتكون هذا التصميم من مواد وحزم من الألياف المتوازية تشبه ألياف الكولاجين في العظام أو الأوتار. في هذه الحالة، استخدمت مادة الكيفلار، وهي مادة موجودة في السترات الواقية الواقية من الرصاص والأدوات الحادة.

وباستخدام أجهزة الاستشعار وبرامج الذكاء الصناعي،  سيكون من الممكن تصميم نموذج الكابل رقمياً، بحيث يتم التنبؤ بخصوص متى وكيف ستنهار هذه الألياف. وعندما تنهار هذه الألياف، ستعمل الروبوتات الآلية المتواجدة بجوار الكابل على صيانة وإصلاح الضرر حسب الحاجة – في محاكاة لمستشعرات العمليات البيولوجية.  وفي ظل العمل تحت ضغط وثقل مرتفع جداً مقارنة بما يمكن للمواد تحمله في الظروف العادية، فقد ظهر أن الهيكل المقترح يمكن الاعتماد عليه ولن يتطلب معدلات استبدال باهظة. وعلاوة على ذلك، فإن القوام الأعظم الذي تحتاجه المواد لامتلاك هيكل يمكن الاعتماد عليه نجح في تخفيض التكلفة بنسبة مذهلة وصلت إلى 44%.

هذا النهج المستوحى من الهندسة الحيوية يمكن أن يساعد أيضاً في بناء المباني على سطح الأرض أيضاً مثل الجسور وناطحات السحاب. فمن خلال “تحدي” موادنا المتاحة حالياً، وتجهيز الأنظمة بآليات إصلاح واستبدال مستقلة، يمكننا تجاوز الحدود الحالية للبناء مع تحسين في الموثوقية.
ومن أجل معرفة أكبر بفوائد استغلال طاقة التحمل القصوى، انظر إلى جسر معلق يشمل أطوال مختلفة للأحبال الفولاذية المغموسة في الوسط، تجد أن العقبة ألأكبر أمام زيادة مساحة الجسر تتمثل في أن الحبال الأطول حال استخدامها تصبح أكثر ثقلاً وقد تنهار تحت تأثير وزنها.

لكن في الحالة الأخرى، لم تم استخدام 50% من طاقة تحمل الحبل الكلية، فإن الحد الأقصى للطول يبلغ حوالي 4 كم، وعندما يتم استخدام 90% من طاقة تحمل الحبل، فإن الحد الأقصى للطول يصل إلى 7.5 كم. على أي حال، فإن ضمان سلامة الحبل هنا يتطلب استبدال ألياف الصلب عبر عمليات دقيقة، تماماً كما هو الحال في الأنظمة البيولوجية.

لم تعد الهياكل العملاقة خيالاً علمياً. فلم يثن البشر انهيار برج بابل قديماً، فقد استمروا في السعي إلى الوصول إلى أبنية أكبر وأعلى وأكثر تطوراً، معتمدين على التطورات الهائلة في العلوم والتكنولوجيا. ومع ذلك، فإنه وفق معايير الهندسة الموثوقية الكلاسيكية، ما زلنا بعيدين عن ذلك. وبدلاً من هذا التحديد، فإننا بحاجة إلى نموذج جديد، لا يركز فقط على القوة المادية بقدر تركيزه على القدرات البناءة للأنظمة هذه وكل ما علينا هو النظر بتمعن إلى الحياة البيولوجية من حولنا والثقة بأن هناك الكثير أمامنا لتعلمه من هذه التقنيات.

شارك
نشر المقال:
هيثم فيضي