علم النفس

ما هو النفاق وما هي المبادئ النفسية التي تحكمه؟

في هذه الأوقات من الاضطرابات السياسية، سواءً من الخطابات العدوانية التي نراها على الانترنت، إلى التصريحات المتضاربة على التلفاز، يصبح هناك شيء وحيد يصعب إنكاره، وهو أن هناك الكثير من النفاق الذي يخيم على الأجواء، فقد أصبح هدف معظم الأشخاص تقريع الآخرين وانتقادهم بطريقة غاضبة ومنتظمة، في الوقت الذي يقومون فيه بذات الأشياء التي ينتقدونها في الآخرين إلى حد كبير.

يعتبر معظمنا بأن النفاق أمر خاطئ وغير أخلاقي، ويُحكم على المنافق عادة بأنه شخص غير جدير بالثقة، ولكن هل هذا صحيح؟ بالمعنى العلمي، قد يكون النفاق أكثر تعقيداً مما يبدو عليه، ويمكن أن يظهر في عدة طرق، ولعدة أسباب، وكثيراً ما يكون هذا الفعل غير نابع من رغبة الشخص في خدمة مصالحه الذاتية.

طبيعة وتوقيت النفاق

قد يتم الحكم على الكثير من الأفعال بأنها نوع من النفاق رغم أنها غير ذلك في الواقع، ففي الكثير من الأحيان، يتم تخطي  الأشياء التي تعتبر في جوهرها نوع من النفاق لأنها تتفق مع المحيط التي تم وضعها فيه.

على سبيل المثال، عندما يحاول شخص ما إقناع الآخرين بالتبرع بالمال للجمعيات الخيرية دون أن يقوم هو نفسه بالتبرع بأي شيء، فإن هذا يعتبر نوع من النفاق، ولكن إذا ما كان هذا الشخص يعرف بأنه بخيل وبدأ فجأة يحث الآخرين على التبرع للجمعيات الخيرية، فعلى الرغم من أن البعض قد يعتبرون هذا الفعل بأنه نوع من النفاق، إلّا أن البعض الآخر قد يعتبرون بأن الشخص قد تغير بطريقة ما، حيث أن تغير وجهة النظر أو الفعل من أجل الصالح العام يعتبر دائماً بأنه من الأشياء الحسنة.

بالإضافة إلى ذلك، عادة ما يميل الأشخاص للرد بشكل أكثر سلبية على النفاق الذي يشتمل النقد أو الحكم السلبي، فالشخص الذي يتفاخر بأنه من عشاق الاستماع إلى الموسيقى الحية ولكن لم يذهب أبداً لحضور حفلة موسيقية، قد يعتبر منافقاً ومزعجاً، غير أن الأمر قد لا يستحق إثارة غضب الآخرين من حوله، ولكن الشخص الذي يهاجم المثليين، ليتبين بعد ذلك بأنه كان قد انخرط في نشاط مماثل في السابق، قد يثير ازدراءً مروعاً، ولأن الأشخاص بطبيعتهم يظهرون رد فعل عنيف تجاه الأشياء التي تبدو بأنها غير عادلة، فإن ذلك الرياء سيستثير غضباً عارماً ومطالبةً في الحصول على القصاص العادل.

بالمثل، عادة ما يكون الأشخاص أسرع بكثير في ملاحظة النفاق عندما يتعارض مع معتقداتهم الخاصة، فإذا كان هنالك سياسي تعارضه لكنه يدعم القيم الأسرية، وتبين بأنه كان قد مر بعلاقة غرامية مشبوهة، فعندها سيكون من وجهة نظرك شخص منافق، ويجب إخراجه من الحياة السياسية، ولكن إن كنت من مؤيدي ذلك السياسي، فعندها سيكون تبريرك بأنه لا يوجد أحد مثالي، وأنه من الواجب منحه فرصة أخرى، وأن هناك قضايا أكثر أهمية يجب القلق حولها، وإلى آخره.

في الأساس، لا يعتبر البشر عقلانيين أو ثابتين في الرأي بنسبة 100%، فالأحكام القائمة على القيم عادة ما تكون ذاتية أكثر منها موضوعية، وبالتالي فإن مدى النفاق ومقداره عادة ما يعتمد على وجهة نظر كل شخص بمفرده، وهذا يغذي النفاق بطرق أو بأخرى أيضاً.

الاعتقاد بأنك أفضل من الآخرين

البشر ليسوا روبوتات المنطقية، فغالباً ما يتون تقديراتهم لأنفسهم أعلى مما هي عليه في الحقيقة، كما أن معظم البشر يمتلكون تحيزاً يخدم مصالحهم الذاتية، حيث أنهم يقيّمون قدراتهم وأدائهم بمقدار أكبر بكثير مما هو عليه في الواقع، وهذا ليس مستغرباً، فالدماغ يمتلئ بالتحيزات المعرفية وتلك التي تتعلق بالذاكرة والتي تهدف لجعلنا نشعر بأننا طيبين ومحترمين وقادرين على فعل كل شيء، وذلك بغض النظر عن الواقع، والمشكلة هي أن أحكامنا على الآخرين تكون أكثر “واقعية” بكثير.

في بعض الحالات، يمكن أن يؤدي هذا لظهور الشخص بمظهر المنافق، فعلى سبيل المثال، يمكن للطيار أن يمنع  الأشخاص غير المدربين من تولي السيطرة على الطائرة، على الرغم من أنه يقودها بنفسه طوال الوقت، وفي هذه الحالة لا يكون الطيار منافقاً، بل هو ببساطة يعرف مستوى قدراته، وبالمثل، قد يحث بعض الأشخاص الآخرين على فعل شيء معين دون أن يقوموا به بأنفسهم، وذلك لأنهم يعتقدون بأنهم لا يحتاجون لفعله، ولكنهم بحاجة لإخبار الأشخاص الآخرين الأقل شأناً منهم بما يفعلونه، وعلى الرغم من أن هذا ليس بالشيء اللطيف، غير أنه أمر طبيعي، وقد لا يكون نابعاً حتى عن قرار واعي، وبهذا لا يكون أيضاً نفاقاً متعمداً، إلّا أن هذا الأمر لا يغير أي شيء في النتيجة.

التنافر المؤدي

بالنسبة لأولئك الذين يمتلكون دراية حول التنافر المعرفي، فإنهم يعلمون بأن عملية عدم التطابق بين السلوك والمواقف المتعلقة بالمعتقدات قد تسبب عدم الراحة للدماغ، وهذا قد يجعلهم يتساءلون حول السبب الذي يجعل هذا الأمر غير قادر على تقويض سلوك المنافقة لدى الأشخاص المنافقين، فهذا لا بد وأن يكون من شأنه أن يمنع الأشخاص من فعل الأشياء التي يدينونها علناً.

الجواب ببساطة هو أن الأمر يعتمد على الوضع الحاضر، ففي كثير من الأحيان، يكون مبدأ “أنا أفضل من الآخرين لذلك لا بأس بأن أفعل هذا” كافياً للتوفيق بين السلوك والمواقف المتعلقة بالمعتقدات، ولكن في أحيان أخرى، قد يكون الأمر أكثر جدية، فبالعودة إلى المثال السابق عن الأشخاص المناهضين للمثلية الجنسية والذين يتبين فيما بعد انخراطهم بمثل هذه الأفعال، فإن هذا يعتبر من أنواع المنافقة التي يعاني أصحابها من التنافر القوي للغاية، ولكن علم النفس يفسر أفعال هؤلاء الأشخاص على أنها محاولة من قبلهم لحل هذا التنافر، حيث أن معظم هؤلاء الأشخاص يكونون قد نشأوا في بيئة تؤمن بأن المثلية الجنسية هي خطيئة كبيرة، ونتيجة لذلك، فقد كبروا ليؤمنوا بذلك هم أنفسهم، وهذا أمر طبيعي تماماً، ولكن عند وصولهم لسن المراهقة، اتضح بأنهم مثليوا الجنس، وهذا ما أدى لتوليد تنافر شديد في داخلهم.

أحد الطرق التي يمكن من خلالها لهؤلاء الأشخاص حل هذا النتافر هي تعزيز السلوك المعادي للمثليين، وذلك من مبدأ “لا يمكن أن أكون مثلي الجنس، إنظروا كم أكره هؤلاء الأشخاص وأعمل ضدهم!”، وبهذا تصبح المعتقدات والسلوك أكثر اتساقاً مع بعضهم، ولكن من الصعب الحفاظ على هذا النوع من التظاهر والنفاق، حيث أن الجنس يعتبر حافزاً قوياً جداً، وغالباً لا يكون الأشخاص أقوياء بما يكفي لمحاربته، لذلك ينتهي الأمر بهؤلاء الأشخاص ليكونوا نشطاء أقوياء مناهضين للمثليين وفي الوقت ذاته منقادين وراء رغباتهم المثلية، وعلى الرغم من أن هذا لا يعتبر نفاقاً متعمداً في معناه، فالجدير بنا أن نشفق على هؤلاء الأشخاص لا أن ننهال بالشتائم عليهم، إلّا أن نفاقهم هذا يمكن أن يكون مؤذياً للآخرين.

النفاق هو الطريق الأسهل

من الناحية المنطقية، فإن الشخص الذي يعظ الآخرين بأهمية التبرع بالمال للجمعيات الخيرية أو الامتناع عن القيام ببعض الأعمال اللأخلاقية، لا بد وأن يكون يطبق هذه المبادئ على نفسه أولاً، ولكن ماذا لو كان هذا الشخص يخبر الآخرين بالفعل بأنه يفعل هذه الأشياء، دون أن يقوم بها؟ هذا يمكن أن يمنحه كافة المزايا ويجعل الآخرين يعتقدون بأنه شخص جيد وقادر على فعل مختلف الأشياء، دون أن يضع الشخص تحت أي ضغوط لضبط النفس، وهذا سيكون رائعاً بالنسبة للشخص المنافق.

غالباً ما يكون البشر أكثر ميلاً لمبدأ العمل بأقل جهد ممكن، وهو ما يعني أنهم يقومون بأخذ أي خيار يتطلب أداء عمل أقل، والنفاق يسمح لهم بالظهور بأفضل شكل ممكن بدون أن يكون عليهم القيام بأي شيء، وهذا أسهل بكثير من التمسك بالمبادئ الصارمة.

 

شارك
نشر المقال:
فريق التحرير