سلسلة عمران

كيف للعلم أن يُدمرنا؟ تأملات في الفِكر والهندسة!

لطالما رددنا أن العلم يبني بيوتًا لا عماد لها، كما لا يخفى على أيّ منّا ما للعلم من منافع جليلة على حياتنا اليومية، ومن ضمن ذلك مقدرتنا على مُطالعة هذه المقالة على الحاسوب وهو أمرٌ لم يحلم به أحدٌ من أجداد أجدادنا، ولكن؟ هل هذا كُل شيء، بالطبع لا، فللعلم وجه آخر قبيح وفي عصرنا الحالي فإن إشكالية “العلم المُنفصل عن القيمة” وصلت ما لم تصله البشرية مُنذ آلاف الأعوام، فقدمت لنا القنبلة الذرية والأسلحة الفتّاكة كما فنون إعادة تحويل البشر إلى صابون وسماد أو حتى تطبيقات الهندسة الجينية التي لا يعلم عواقبها إلا الله!

في مُعظم كتابات الراحل د.عبد الوهاب المسيري يُحاول أن يفضح الوجه الآخر القبيح للحداثة المادية الغربية التي فصلت العلم عن القيِم تحت مزاعم النظرة الموضوعية للأمور. هذا الانفصال عن القيمة يعني بحسب المسيري الانفصال عن الإنسان والعالم وتحولهما لمادة استعمالية، فينزع القداسة عنها ثم تغيب المعايير ويصبح من الصعب التمييز بين الخير والشر والعدل والظلم والجمال والقبح. ولتوضيح ذلك بشكل أكثر وضوحًا يقول: “الحداثة مرتبطة تماما بفكر حركة الاستنارة الذي ينطلق من فكرة أن الإنسان هو مركز الكون وسيده، وأنه لا يحتاج إلا إلى عقله سواء في دراسة الواقع أو إدارة المجتمع أو للتمييز بين الصالح والطالح، وفي هذا الإطار يصبح العلم هو أساس الفكر، مصدر المعنى والقيمة، والتكنولوجيا هي الآلية الأساسية في محاولة تسخير الطبيعة وإعادة صياغتها ليحقق الإنسان سعادته ومنفعته”.

هل سنحتاج إلى ست كرات أرضية؟

في ظل هذه المحاولات لتسخير الطبيعة والعالم بأسرة لصالح الإنسان الغربي، أصبح أهم مؤشرات التقدم هو الاستهلاك والمزيد من الاستهلاك، مما استنزف المواد الطبيعية في العالم وانتهي الأمر – كما يقول المسيري – بأن الشعوب الغربية التي تشكل ‏20%‏ من شعوب العالم تستهلك ‏80%‏ من موارد الكون الطبيعية، ويبلغ حجم ما استهلكه الشعب الأمريكي في القرن الماضي أكثر مما استهلكه الجنس البشري عبر تاريخه، ولكن المصادر الطبيعية محدودة، الأمر الذي تسبب في الأزمة البيئية التي ستودي بنا جميعا، وقد جاء في إحدى الدراسات أنه لو عم التقدم بأسره علي النمط الغربي فإن الجنس البشري سيحتاج إلي ست كرات أرضية ليستخلص منها المواد الخام، وكرتين ليلقي فيها بنفاياته، وهذه المعلومات كفيلة بأن توضح لنا الكارثة التي يُمكن أن تتحقق إذا ما شاع النموذج الحداثي الغربي في بلادنا وغيره من البلاد حول العالم.

صناعة الصابون من دهون البشر؟

ومن أجل المزيد من “التقدم” و”السيطرة” فلا بُد أن نتأمل كيف تعاملت معسكرات الاعتقال النازية مع المعتقلين فيها وهي تمثل بالنسبة للمسيري قمة من قمم انتصار الكفاءة والإجراءات المنفصلين عن القيمة. فبعكس ما يُخيل لمن سمع بهذه المعتقلات، فإن الإجراءات كانت في غاية الدقة والرشد وكان يفرض على المعتقلين القيام ببعض التمرينات الرياضية حتى يحتفظوا بمستوى عال من اللياقة البدنية مثلًا، وكان مدير المعسكر يحاول أن يعظم الربح بكل الوسائل الممكنة مثل أعمال السخرة بالنسبة للقادرين على العمل، ويذكر المسيري أن مجالس إدارة الشركات الألمانية المستفيدة من العمالة الرخيصة كانت تعقد بعض اجتماعاتها في داخل المعسكرات.

بالنسبة للمعتقلين الذين كان يتم تصنيفهم باعتبارهم عناصر عديمة الفائدة فكانت تتم تصفيتهم، ولكن ما تبقى منها، أي الجسد الإنساني، فإن توظيفه يتم بطرق مختلفة: حشو الأسنان الذهبي يرسل للخزانة الألمانية ليساعد على ازدهار الاقتصاد الوطني، أما الشعر البشرى فيصنع منه فرش أحذية من أجود الأصناف، ويقال إن الشحم البشرى كان يستخدم في صناعة بعض أنواع الصابون. وكان الأمر كله يتم في هدوء وموضوعية شديدة، فمدير المعتقل كان يجلس في غرفته مع أسرته يستمع إلى موسيقى فاجنر ويتمتع بمنتجات الحضارة، لكن دون أن يشعر بأي أعباء أخلاقية كما يذكر المسيري في مقالة “الصهيونية والنازية والإجراءات المنفصلة عن القيمة” في محاولة منه لكشف المزيد مما يُمكن لفصل العلم عن القيمة أن يفعله بالعلماء الذين لا يتورّعون عن استخدام جسم الانسان لصناعة الصابون مثلًا، فالمسألة هي مسألة “اعادة تدوير” وهي ممتازة من منظور “علمي” بحت.. أما الجانب الأخلاقي فهذا ليس شأنهم!

تطبيق نتائج تجارب الفئران.. على البشر

لم تكن تلك الأفكار حِكرًا على الفترة النازية وإن كان قد تجلى فيها بشكل “متطرف” إلا أن النموذج المادي العلماني المُهيمن لم يكن رحيمًا بالإنسانية كما نتوهم أحيانًا حيث يوضح المسيري في كتابه “الفلسفة المادية وتفكيك الانسان” أن المُشكلة بدأت من فكرة وحدة العلوم التي تذهب إلى أن ثمة قانونا واحدا يسري على الإنسان سريانه على كل الكائنات الأخرى، إذ الفرق بين الإنسان والحيوان من هذا المنظور فرق في الدرجة وليس في النوع وهو ما جعل العلوم الإنسانية تنغمس في التجريب على الحيوانات واستخلاص النتائج من تلك التجارب المعملية وتصور أنها تنطبق على الإنسان.

هذا المقال من ضمن سلسلة عُمران

الهندسة والاستحمار … عندما نفصل الفكر عن الهندسة

الجفت.. وقود من بلاد الزعتر والزيتون

كيف يُمكن لمشروع هندسي أن يُساهم في توحيد الأمّة؟ الخط الحديدي الحجازي نموذجًا!

كيف للعلم أن يُدمرنا؟ تأملات في الفِكر والهندسة!

من مكة إلى لاس فيغاس.. كيف غيّرت فنادق مكّة مفهومنا عن الحج؟

المقاومة بالطاقة الشمسية.. كيف يُمكن للشمس أن تتحول لوسيلة صمود؟

من موسيقى الماتورات إلى أوقاف التقنية والعلوم.. تأملات “سيد دسوقي” في الهندسة والقرآن!

ومن أبرز تلك الأمثلة التي يحدثنا عنها المسيري هي تجارب بافلوف على الكلاب والتوصل إلى ما يسمى “الفعل المنعكس الشرطي”، وتجارب المدرسة السلوكية على الفئران وتطبيق نتائجها على البشر.. كما يُشير المسيري لمسألة مهمة لا يُلتفت إليها غالبًا وهي أن كُل الأبحاث التي تجري على الحيوان لا يُمكن أن تنطبق على الانسان بكونه مخلوق مُركب جدًا ولا يُمكن فهمه من خلال أبحاث ترتكز على النظرة “البرانية” دُون الاهتمام بالبعد الروحاني و”الجوّاني” للإنسان.. وهو ما يميزه عن حيوان وبالتالي فإن هذه الأبحاث يُمكن أن تؤدي إلى الإساءة للإنسان!

التلوث الجيني

حتى أبحاث الهندسة الوراثية التي زعم أصحابها أنها تهدف إلى خدمة الانسان فإنها ليس بالضرورة كذلك، وغالبًا ما يذكرها المسيري بوجهها القبيح حيث يذكر أن تجارب الهندسة الوراثية عن التهجين القديم في أنها تتجاهل تماما حدود البيولوجيا، إذ يُمكن إضافة جينات من الفيروسات أو البكتريا أو الحيوانات في الشفرة الجينية لأنواع النباتات التقليدية. وهذه التجارب قد تأتي بمخلوقات لا يُمكن لدورة الطبيعة أن تتعامل معها فهي مخلوقات تقع خارج نطاق حلقة التطور الطبيعية، كما يشير إلى ظهور مصطلح التلوث الجيني الذي يعبر عن انتقال الجينات التي تم ادخالها على أحد النباتات بقصد جعلها أكثر انتاجية وأكثر مقاومة للمناخ إلى نبات آخر ( أعشاب ضارة على سيل المثال) مما يجعل القضاء عليها صعبا أو مستحيلا.

على سبيل المثال فإن الأغذية التي تحتوي على مكونات مُهندسة أو مُعدلة وراثيا تضعف جهاز المناعة ( كما ثبت من كثير من التجارب العلمية ) ولذا فهم يطلقون عليها أغذية فرانكنشتاين وقد طرد أحد العلماء الإنجليز من عمله لأنه راح يؤكد هذه المقولة.

صناعة الدمار

وسواء كُنا نختلف مع المسيري في حكاية حدود التلوث الجيني أو صحّة حكاية صناعة الصابون من الدهون البشريّة فإنه لا يُمكن لعاقل أن يختلف معه في نقده لصناعة الأسلحة التي تعتبر من أهم الصناعات العالمية الان وهو ما يراها المسيري من زاوية أخرى على أن أهم أشكال الإنتاج في عصرنا الحديث هي انتاج أشكال الدمار. كما يذكر المسيري بشكل متواصل صخبه من الحماسة الببغائية لتقليد المشروع الغربي الذي أنتج القنابل النووية التي القيت على اليابان وساهمت في إبادة آلاف البشر، كما يذكر في كتابه “رحلتي الفكرية” كيف التقى بمخترع القنبلة النووية وسأله عن أول شيء فعله بعد توصله إلى المعادلة التي أدت إلى اختراع القنبلة فرد المخترع: لقد تقيأت! وهو ما يعبر – بحسب المسيري – عن أزمة انفصال القيمة عن العلم التي نعيشها في أيامنا.

ما المطلوب ؟

من يقرأ للمسيري يُعلم تمام العلم أنه ليس ضد العلم، بل من أنصار العلم بل ويدعو إلى الحداثة ولكن ليس أي حداثة، بل يقول:”إن المطلوب هو “حداثة جديدة”، تتبنى العلم والتكنولوجيا ولا تضرب بالقيم أو بالغائية الإنسانية عرض الحائط، حداثة تحي العقل ولا تميت القلب، تنمي وجودنا المادي ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود، تعيش الحاضر دون أن تنكر التراث.”