سلسلة عمران

الهندسة والاستحمار … عندما نفصل الفكر عن الهندسة

كثيرًا ما نغتر بأنفسنا كمُتعلمين ونحن نسمع كلمات الإطراء من حولنا تتدفق علينا من هذا وذاك وكثيرًا ما تُعلق علينا آمال نحن أبعد ما نكون عن تطبيقها والسبب في ذلك كما يبدو هي حالة “الاستحمار” التي نعيشها ويعيشها المسلمين مُنذ عقود، حتى أن المُفكر الإيراني علي شريعتي ترك لنا كتابًا بديعًا بعنوان “النباهة والاستحمار” فيه أفكارًا “خطيرة” تستحق أن نتأملها طويلًا وإن لم نتفق معها جميعها، إلا أنها تستحق التأمل.

حينما سمعت عن هذا الكتاب لأول مرّة لم أتحمس أبدًا لمُطالعته، كُنت أظنه مُجرد كتاب آخر ينتقد واقعنا كمسلمين ولكنني أعترف أنني كُنت مُخطئ فهو يختلف عن كثيرٍ من الكُتب الفكريّة بأنه لا يعرف “اللف والدوران” فعدد صفحاته لا تتجاوز الـ 100 صفحة ومع ذلك يضع يده على الجرح بلا مُقدمات طويلة فتُفتح جبهة ضد “الاستحمار” و”الاستعمار” ويبدأ القصف.. وأول القصف لم يكن من نصيب الغرب ولا اولئك الذين تخلفوا عن مقاعد الدراسة والجامعات ومراكز الأبحاث.. بل المتعلمين و”بتوع المدارس” ممن انشغلوا بالعلم من أجل العلم وقدسوا تخصصاتهم وجعلوها فوق كُل هم من هموم الأمة وعلى رأس هؤلاء المهندسين!

يقول “شريعتي” في أول جبهاته ضد الاستحمار: “الانسان إذا أُشبع بالعلم، لم يعد يشعر بالجوع الفكري، حيث أن المتعلمين في هذه الأيام ينظرون إلى قضايا العلم منفصلة عن قضايا الفِكر”، وليت المُشكلة تنتهي هنا، بل هذه ليست إلا البداية حيث يُلاحظ شريعتي أن المتعلمين من أبناء المجتمعات الفقيرة لم يستغلوا قدراتهم في انتشال مجتمعاتهم من الفقر والخضوع والاستسلام للغرب بل إن الكثير منهم – بالأخص النابغين والمتفوقين – صاروا كالسلع المعدة للبيع والشراء، تتبع المال أينما كان والأنكى أن منهم من يتحوّل ليكون عونًا للظلم.

ففي فصل “عون الظلمة” يقول شريعتي: “نرى أن أدمغة العالم الثالث، تنقسم إلى قسمين:

قسم منها يصدر إلى الخارج، ليستهلك في تلك الأجهزة العظيمة، باذلًا نبوغه وقابليته في خدمة الأجنبي، غير عابئ بما قد يخسر، مقابل ألفي “تومان” تُضاف على الراتب!. وقسم يعود إلى البلاد، ليُشكل الدعامة الخامسة للبلاد للاستهلاك الأجنبي”، وبالتالي فإن هذه الأدمغة تساهم في غرق مُجتمعاتها في الثقافة الإستهلاكية تمامًا كما أراد لها “الاستعمار”، وهكذا تُسخر قدرات “المُتعلمين” في بلادنا كما يُسخّر الحمار وهذا بالضبط هو تعريف مصطلح “الاستحمار”.

والاستحمار في أيامنا، ليس أيّ استحمار بل نجده مُعززًا بالعلم وبالإذاعة والتلفزيون وبالتربية والتعليم كما يرى شريعتي وهو يُعاتب المتعلمين بلهجة شديدة يستشعرها القارئ بينما يقرأ كيف يُمكن لانهماكه في تخصصه الذي منحه كُل وقته يُمكن أن يكون استحمارًا وكيف للعلم الذي يؤمن به ويُبجّله كالعلوم الاجتماعية وعلم النفس التربوي يستغل لاستحماره، هذا غير حكايات “التقدم الاستحماري” الذي لا تخطر ببال أكثرنا ونحن نتأمل بعض مظاهر “التقدم” المبهرة التي تحصل في بلادنا العربية فيكون في ظاهرها التقدم وفي باطنها “الاستحمار”.

في عصر الاستحمار، يُمكن أن تجد نفسك مثلًا وقد انهالت عليك كلمات الإطراء والتشجيع كي تكمل وتواصل دراستك حتى الحصول على الشهادات العالية وقد تُذكر لك فوائد العلم وأن “طلب العلم فريضة” وقد تجد من يُساعدك على السفر إلى أمريكا لإتمام دراستك ويتكفل بتأمين المبالغ الضخمة من أجل  دراستك شهريًا، وقد تجده مستعدًا لدفع مبالغ أكثر، والمهم هو أن تلتهي بكل ذلك عن هموم أمّتك.

هذا المقال من ضمن سلسلة عُمران

الهندسة والاستحمار … عندما نفصل الفكر عن الهندسة

الجفت.. وقود من بلاد الزعتر والزيتون

كيف يُمكن لمشروع هندسي أن يُساهم في توحيد الأمّة؟ الخط الحديدي الحجازي نموذجًا!

كيف للعلم أن يُدمرنا؟ تأملات في الفِكر والهندسة!

من مكة إلى لاس فيغاس.. كيف غيّرت فنادق مكّة مفهومنا عن الحج؟

المقاومة بالطاقة الشمسية.. كيف يُمكن للشمس أن تتحول لوسيلة صمود؟

من موسيقى الماتورات إلى أوقاف التقنية والعلوم.. تأملات “سيد دسوقي” في الهندسة والقرآن!

وما أكثر ما نرى حولنا من مُهندسين وطلاب يدرسون تخصصات لا علاقة لها بهموم بلادهم ومشاكلها وقد يتعمق الواحد منهم في تخصصه حتى لا يكاد يفقه في شيء غيره، وهؤلاء يُذكرون “شريعتي” ببقرة أفلاطون، فعندما يلمس أحدهم حافرها وآخر قرنها وثالث ذنبها تكون النتيجة أنه لا أحد من بين هؤلاء الثلاثة يشعر بوجود حيوان، وهكذا حال التخصص الذي “يسبب انغماس الانسان في إطار محدود وصغير جدًا، مجردًا عن المجتمع، بصورة يصعب معها لمسه كجسم واحد شامل” وهكذا يفقد الإنسان أهم ما يُميزه كإنسان وهي “الدراية” أو “النباهة” وبالأخص ما يُسميه “الدراية الاجتماعية” وهي أن يكون الإنسان واعيًا بدوره الإنساني في مجتمعه وفي شتى وجوه الحياة.

أحد أخطر الامثلة على مثل هذا الاستحمار المُعزز بالعلم والتخصص هي حكاية المهندسين الأفارقة مع المستعمر الفرنسي الذي نهب بلادهم، حيث أنه و”قبل ثلاثين سنة، لم يكن في افريقيا مهندس افريقي واحد! وكان المتمولون الفرنسيون وأصحاب رؤوس الأموال يأتون بالمهندسين من فرنسا ويجرون لهم شهريًا خمسين ألف تومان. أما الان وقد شاء الله أن يكون بين الأفريقيين مهندسون منهم، يصلحون لنفس العمل الذي كان منوطًا بالأجانب فإنهم يتقاضون ألفي تومان فقط!”.

لا شك أن شريعتي ليس ضد العلم ولا الهندسة، ولكن ضد “العلم من أجل العلم” والذي لا يرى فيه إلا اداة انحراف وضلال عن النباهة الذي تجعل الإنسان واعيًا لقدراتهم وإمكانياتهم ودوره في المجتمع، كما أنه ضد العلم الذي يوظف في صناعة البشر وفق أهواء الاستعمار وهو ما نراه من خلال المؤتمرات العلمية التي يجتمع فيها عُلماء النفس والتربية والفلسفة ليُخرجوا لنا جيلًا مُطابقًا للمقاييس العالميّة يشرب الكوكاكولا بدلًا من اللبن ويأكل الهامبورجر بدلًا من وجبات الفول والفلافل ويضع مساحيق التجميل العالمية بدلًا من “الحناء”.. وباختصار انسانًا يستهلك كُل ما يُوضع أمامه دُون “نباهة”، كأنه “حمار” تقريبًا!