التجربة الألمانية في مجال الطاقة

الطاقة .. الهاجس الأكبر للإنسان في القرن الحادي والعشرين. فالجميع يتحدث عن نقص متوقع في الطاقة، وأزمات وصراعات بسبب الطاقة، وربما حروب على مصادر الطاقة التي تنضب مواردها –الغير متجددة- بمرور الوقت. بجانب هذا يتحدث الجميع عن البيئة وتدميرها في سعي الإنسان الحديث نحو الطاقة واستغلالها من أجل رفاهيته. وفي ظل الصراع القائم بين البحث عن الطاقة والتوسع في تدمير البيئة، وبين الحفاظ على البيئة والحد من الطاقة وبالتالي رفاهية البشر؛ تبزغ التجربة الألمانية في مجال الطاقة كأمل جديد لحل أزمة الطاقة والحفاظ على بيئة نظيفة في الوقت ذاته.(Energiewende) هو الشعار الذي رفعته ألمانيا عام 2010 في مجال الطاقة، والذي يعني بالعربية “ثورة الطاقة”. حيث قررت الحكومة الألمانية القيام بثورة في مجال الطاقة عبر التحول من الاعتماد على الوقود الأحفوري كمصدر للطاقة إلى استخدام مصادر الطاقة المتجددة النظيفة بشكل رئيسي بحلول منتصف القرن الحادي والعشرين. وذلك من أجل الحفاظ على بيئة نظيفة مستدامة عبر خفض نسبة “غازات الاحتباس الحراري” (Green house Gases) عن مثيلتها عام 1990 بنسبة 40% بحلول عام 2020، وزيادة نسبة الانخفاض حتى تصل إلى 80% عام 2050.

قد تبدو تلك الثورة صعبة ومستحيلة خاصة في أكبر دولة صناعية بقارة أوروبا، وأحد أكبر الاقتصاديات الصناعية في العالم؛ حيث تعد مسألة الطاقة وتوفيرها مسألة بقاء وإثبات وجود. لكن الألمان مقتنعون أنهم قادرون على فعلها؛ خاصةً وأنه في عام 2011 بلغت مصادر الطاقة المتجددة ما يقارب 20% من إنتاج الطاقة بألمانيا، بعد أن كانت 6% فقط عام 2000.

إن التحديات الرئيسية التي تواجه ثورة الطاقة تلك تكمن في بناء محطات لتوليد الكهرباء اعتماداً على موارد متجددة للطاقة على نطاق واسع، وبكلفة معقولة ومقبولة، بجانب العمل على ترشيد وخفض استهلاك الطاقة. كل هذا مع عدم المساس بالطاقة الموجهة للصناعة الألمانية التي يقوم عليها الاقتصاد الألماني –والمتوفرة حالياً بكميات معقولة وبسعر مقبول.

وقد زادت تلك التحديات جسامة وصعوبة بعد اتخاذ الحكومة الألمانية إجراءات حاسمة تجاه الاعتماد على الطاقة النووية كمصدر لتوليد الكهرباء بعد كارثة مفاعل “فوكوشياما” الياباني. فقد قامت الحكومة الألمانية بإغلاق أقدم 8 مفاعلات نووية بالبلاد، والسير في خطة ممنهجة لإغلاق 9 مفاعلات نووية هي المتبقية بالبلاد بحلول عام 2022. مما حدا بالحكومة الألمانية اللجوء إلى حرق الفحم خاصة فحم “الليجنيت” –والذي يعد أقذر أنواع الوقود الأحفوري والأشد تلويثاً للبيئة- من أجل توليد الكهرباء؛ وتعويض نقص الطاقة الناتج عن إغلاق المفاعلات النووية لتستمر عجلة الصناعة كما كانت ولا يتأثر اقتصاد البلاد بذلك الإجراء. وبالطبع هذا يوثر سلباً على البيئة، ويزيد من نسبة غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي؛ وهو ما يتنافى مع مبادئ الثورة الألمانية في مجال الطاقة.

ورغم كل هذه التحديات والصعوبات التي تواجه ثورة الطاقة الألمانية؛ فقد أعد الألمان عدتهم لمواجهة الأمر وإنجاح ثورتهم من خلال عدة استراتيجيات.

الإستراتيجية الأولى التي اعتمدتها ألمانيا خاصةً لمواجهة نقص الطاقة الناتج عن إغلاق المفاعلات النووية؛ هي التوسع في بناء مزارع لتوليد الكهرباء من طاقة الرياح، وزيادة الاعتماد على الطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء. حيث قامت ألمانيا ببناء 22 ألف طاحونة هوائية توربينية في شمال البلاد بالقرب على شواطئ بحر الشمال لتوليد الكهرباء واستغلال طاقة الرياح العاتية في تلك المنطقة. بالإضافة إلى هذا شجعت الحكومة الألمانية سكان مدن الجنوب على تركيب ألواح شمسية في بيوتهم لتحويل الطاقة الشمسية لكهرباء يمكنها الاعتماد عليها، كما تدعم الحكومة الألمانية البحث العلمي في مجال أبحاث تطوير الخلايا الشمسية لتصبح أكثر كفاءة وفاعلية وأقل تكلفة. لكن للأسف الأمر ليس بهذه البساطة؛ فأحياناً تشتد الرياح بسواحل بحر الشمال مما يتسبب في إغلاق التوربينات للحفاظ عليها من التلف، ولعدم وجود إمكانية لتصريف الطاقة الزائدة المتولدة حينها. كما أن سطوع الشمس جنوب البلاد ليس دائماً طوال العام مما قد يتسبب في انقطاع الكهرباء أحياناً.

الإستراتيجية الثانية التي تنتهجها الحكومة الألمانية هو بناء بنية تحتية جديدة ملائمة لهذا التحول في سياسات إنتاج الطاقة. ويتوقع العديد من مراكز الدراسات الاقتصادية الألمانية أن تكلفة تطوير تلك البنية التحتية سيتراوح بين 125 مليار دولار أمريكي و250 مليار دولار أمريكي يتم إنفاقها خلال 8 سنوات؛ وهذا المبلغ الضخم يساوى حوالي 3.5 إلى 7% من إجمالي الناتج القومي الألماني لعام 2011. ومن أجل هذا قامت الحكومة الألمانية بزيادة في رسوم الكهرباء قدرها 10% كضريبة إضافية على المواطنين لدعم الطاقة المتجددة. قد يبدو الأمر مكلفاً للغاية لكن على الجانب الآخر فإن دعم الطاقة المتجددة وتطوير العمليات الصناعية والتكنولوجية الخضراء الصديقة للبيئة قد وفر صادرات للبلاد بقيمة 12 مليار دولار أمريكي قابلة للزيادة.

الإستراتيجية الثالثة لمواجهة تحديات ثورة الطاقة الألمانية تعتمد بشكل كبير على القطاع الخاص. حيث تقوم شركتي “سيمنس” (Siemens) و”ألمانيا للطاقة” (GE) بتطوير وسائل جديدة لتخزين الطاقة على نطاق كبير. حيث تم إنشاء 31 محطة لتخزين الطاقة بواسطة الماء عبر البلاد؛ حيث يتم رفع المياه ليلاً إلى خزانات في أماكن مرتفعة بتلك المحطات، ثم تركها تهوي من تلك المرتفعات صباحاً لتدير قوة المياه المندفعة توربينات لتوليد الطاقة الكهربية –كما بالسد العالي بمصر. بالإضافة إلى ذلك تقوم تلك الشركات بتطوير بطاريات “أيون الليثيوم” –كالموجودة في هواتفنا النقالة- ضخمة لتخزين الطاقة، لكن العامل الأساسي الذي يمنع استخدام تلك البطاريات هو تكلفتها العالية التي ينبغي خفضها إلى أكثر من النصف لتكون عملية وقابلة للتطبيق.

الإستراتيجية الرابعة والأخيرة تعتمد بشكل كبير على العقول الألمانية والحلول الإبداعية التي تقدمها دائماً لمواجهة التحديات التي تواجه ثورتها في مجال الطاقة. أحد تلك الحلول هي “مزارع الطاقة الافتراضية” التي ابتكرتها شركة (RWE) إحدى كبريات الشركات الألمانية في مجال الطاقة. تعتمد تلك المزارع الافتراضية على برنامج حاسوبي ذكي يتحكم في العديد والعديد من المصادر الصغيرة والمتنوعة للطاقة وعبر التنسيق بينها تتحول إلى مصدر ضخم للطاقة. وقد تم تطبيق تلك الفكرة بمدينة “دورتموند” حيث تم إنشاء شبكة لتوصيل 120 مصدر لتوليد كمية صغيرة من الطاقة تتنوع بين توربينات الرياح والخلايا الشمسية والكتلة الحيوية معاً ليتحكم فيها برنامج حاسوبي؛ هذا البرنامج يتحكم في تشغيل وإطفاء المصادر الصغيرة للطاقة بناءاً على معلومات عن سرعة الرياح وسطوع الشمس وحالة الطقس لتظل في النهاية الطاقة الكلية الناتجة ثابتة وكافية للاحتياجات المطلوبة.

وعلى الرغم من أن الحكومة الألمانية تؤمن بأن تلك الاستراتيجيات هي السبيل لتحقيق أهداف ثورتها إلا أن هناك العديد من المعارضين لتلك الفكرة من أساسها و تعلو أصواتهم من وقت لآخر. ويعتقد هؤلاء المعارضين أن الطاقة الخضراء النظيفة عبر الاعتماد على موارد الطاقة المتجددة لن يمكنها تعويض احتياجات المجتمع الألماني الصناعي. كما أن إغلاق المفاعلات النووية ذات التكلفة الرخيصة والاعتماد على الخلايا الشمسية المكلفة سيزيد من إرهاق الاقتصاد الألماني عبر التأثير في النشاط الصناعي؛ مما يؤدي إلى خفض تنافسية الشركات الصناعية الألمانية مما سيؤثر بالسلب على الأجور والرواتب. وقد حدا كل هذا بالعديد من الشركات الألمانية إلى إنشاء مصانع لها خارج البلاد تخوفاً من حدوث أزمة مستقبلية بالطاقة.

أياً يكن فإن العالم يراقب ألمانيا ويتابع تجربتها الثورية عن كثب. فإذا نجحت سيكون النجاح مدوياً وستتبع ألمانيا العديد من الدول لبناء ثورتها الخاصة؛ وبالطبع ستكون ألمانيا هي النموذج الذي سيحتذى ويحتفى به في مجال الطاقة. أما في حال الفشل فإن السقوط سيكون مدوياً حيث سيتأثر الاقتصاد الألماني القائم على الصناعة بشدة؛ إلا أن عهدنا دوماً بالألمان أنهم لا يفشلون.

الملاحظة الأخيرة أن الهدف الرئيسي من تلك الثورة هي البيئة التي نعيش فيها. فثورة (Energiewende) قامت من أجل إصلاح ما أفسدته الثورة الصناعية بكوكبنا الأرضي، ومن أجل التسامح والتصالح بين البشر وحضارتهم مع البيئة التي تحضنهم. فهنيئاً للشعوب المتقدمة والمتحضرة إبداعهم و لا عزاء للمتخلفين .. عن الركب.

اعتمدت ألمانيا على موارد الطاقة المتجددة
بنسبة 17% لتوليد احتياجاتها من الكهرباء عام 2010.
تطمح ألمانيا بحلول عام 2020 أن تولد 35%
من طاقتها الكهربائية من مصادر متجددة للطاقة.
تشكل مزارع الرياح أكثر من 40% من مصادر الطاقة المتجددة
لتوليد الكهرباء في ألمانيا عام 2010.
إنشاء منصات عملاقة للتحكم في مزارع طاقة الرياح
بالقرب من شواطىء بحر الشمال بألمانيا.
المصدر: ابتكار.كوم
شارك
نشر المقال:
فريق التحرير
الوسوم: ملف الطاقة