الأوهام والهلوسة مفتاح فهم مرض الذهان

في منتصف القرن المنصرم، كان الأطباء النفسيون يعتقدون بأن الجدال مع مريض يعاني من الرهاب حول أوهامه، هي مضيعة للوقت، ولكن من المهم إقناعه بالاحتفاظ بها لنفسه، أي قمعها إلى أقصى حد ممكن، ومقاومة الأعمال العدوانية التي قد يقوم بها الشخص تبعاً لهذه الأوهام، وبعبارة أخرى الاستمرار بالحياة كما لو أن الأوهام غير موجودة، حيث كانت الأوهام (مثل الأفكار الرهابية) والهلوسة (كسماع الأصوات على سبيل المثال) يتم التعارف عليها بتسمية “الجنون”.

الأطباء سابقاً كانوا يعتبرون الأوهام والهلوسات بلا معنى، ولم يقتنعوا بأنها من الممكن أن تكون مهمة في تشخيص حالة المريض، حيث كان ينظر إليها على أنها اسقاطات غير مفهومة ناتجة عن المرض الذي أصاب الدماغ، أو “أفعال كلامية فارغة” لا تحتوي على أي نوع من المعلومات التي تشير إلى العالم أو النفس، أما من وجهة نظر الأطباء الفيزيائيين، فقد كانت هذه الظواهر تعتبر على أنها مشكلة بيولوجية في أساسها، ولذلك كان يتم إعطاء الأدوية المضادة للذهان للقضاء عليها، وفي أحد التجارب التي تم إجراؤها في سبعينات القرن المنصرم، تم إعطاء مكافأة لمرضى الـفصام في ولاية فيرمونت بالولايات المتحدة، بغية حثهم على التوقف عن أوهامهم وعن حديثهم الوهمي، إلّا أن هذه الاستراتيجية أثبتت فشلها في نهاية المطاف، كون معظم المرضى قاموا بتعديل سلوكهم لفترة مؤقتة فقط، ولم يحدث أي تغيير على الأوهام التي يعانون منها، كما لم تتغير حالتهم العقلية العامة.

ولكن التقرير الذي نشرته جمعية علم النفس البريطانية، والذي قدمته مجموعة من كبار علماء النفس السريري، وبمشاركة من الأشخاص المصابين بالإضطرابات النفسية، وذوي الخبرة في التشخيص الذهاني أو انفصام الشخصية، أظهر مدى التقدم الذي وصل إليه علم النفس خلال السنوات الأخيرة، حيث يشير التقرير إلى أن الأوهام والهلوسة يمكن أن يتم فهمها بذات الطريقة التي يتم من خلالها فهم الحالات النفسية الأخرى مثل القلق أو الاكتئاب، وذلك عن طريق الاستماع إلى أوهام المريض وهلوساته واضطراباته النفسية التي يعاني منها، وأخذها بعين الاعتبار عند معالجته النفسية .

في فترة التسعينيات من القرن الماضي، كان يعتقد بأن نسبة السكان الذين يعانون من الأفكار الرهابية لا تتجاوز حوالي 1٪، إلّا أن هذه النسبة من السكان هم الأشخاص الذين تم تشخيصهم بالذهان فقط، ولكن حالياً وبعد أن أصبحت التجارب النفسية أكثر شيوعاً مما كانت عليه سابقاً، تبين أن حوالي ربع السكان يعانون من الأفكار الرهابية بشكل منتظم، كما أن الكثير من الأشخاص يعاني من هذه الأعراض أحياناً دون أن تتسبب لهم بأي ضيق، في حين أنها تؤثر على عدد قليل من الأشخاص بشكل منتظم وشديد، وهذه يعني أن الطب النفسي أصبح بحاجة إلى إيجاد نموذج لعلاج الذهان لا يعتمد على الدواء فحسب، ليس لأن العقاقير لا تجدي نفعاً، بل لأن الكثيرين يمتنعون عن تناول هذه الأدوية كونها تسبب آثاراً جانبية غير مرغوبة.

على الرغم من أن الآلية البيولوجية الدقيقة التي تقف وراء التسبب بالأوهام والهلوسة غير مؤكدة بعد، إلّأ أن العوامل البيئية – لا سيما الصدمات النفسية، وسوء المعاملة أو الحرمان – غالباً ما تلعب دوراً هاماً في التجارب النفسية، كما ووجدت الدراسة أيضاً وجود صلة قوية بين العمليات النفسية – الطريقة التي يفكر فيها الشخص، أو الطريقة التي يشعر ويتصرف بها – ومعاناة الشخص من الأوهام والهلوسة، وبعبارة أخرى، فإن ما يحدث الأحداث التي تجري في حياة الأشخاص، والطريقة التي يستجيبون بها، يمكن أن تحدد إمكانية إصابتهم بالأوهام والهلوسة، ولهذا لا يمكن للأطباء أن يتجاهلوا التجارب الذهانية التي يعاني منها المرضى، ولا يجب اعتبارها مجرد أفعال كلامية فارغة تصيب المرضى العقليين ، بل يجب يتم متابعة المرضى ومحاولة معرفة ما يكمن وراء مشاكلهم.

تشير الأبحاث الى أن العلاج المعرفي السلوكي (CBT) والعلاجات النفسية الأخرى – ما يسمى بـ “العلاج بالحديث” – غالباً ما تكون مفيدة في حالات الهلوسة والأوهام، كما يوصي المعهد الوطني الخاص بالرعاية الصحية (Nice) بوجوب إتاحة الفرصة أمام الجميع للحصول على تشخيص للذهان أو انفصام الشخصية، إلّا أن الواقع يختلف عن تلك التوصيات، حيث يشير التقرير الذي صدر عن لجنة الفصام في عام 2012 بعنوان (المرض المهجور) ، إلى أن اللجنة قلقة إزاء عدم تطبيق علاج (CBT) والعلاجات النفسية الأخرى التي أوصت بها (Nice) على جميع المرضى، على الرغم من أن هذه العلاجات يمكن أن تكون مفيدةً للغاية في مساعدة الأشخاص على التعامل مع تأثير أعراض الذهان، حيث تشير الاحصائيات أن شخص واحد فقط من كل 10 أشخاص يمكنهم الحصول على فحص الـ (CBT) – العلاج السلوكي المعرفي – على الرغم من أنه موصى به من قبل (Nice)، كما تشير الأرقام الصادرة عن الخدمات الصحية الوطنية NHS)) إلى أن 3.4٪ فقط من المرضى الذين يعانون من نوبات الذهان تتاح لهم فرصة تحديد موعد لدى الأطباء النفسيين، كما أن العديد من المرضى لا يخضعون لحلسات لعلاج الأمراض النفسية التي يعانون منها.

يميل الأشخاص الذين يعانون من الذهان للمعاناة من القلق والاكتئاب ومن مشاكل حادة في النوم، وهذا الأمر يزيد من حدة الذهان لديهم، وهناك سجلات حافلة بهذه المشاكل الشائعة نسبياً، ومع ذلك نادراً ما تتم معالجة مرضى الذهان،  لذا ينصح دائماً باستعمال علاج الـ (CBT) بشكل مبكر لعلاج الذهان، وعلى الرغم من أن هذا العلاج قد لا ينفع من جميع المرضى، إلا أنه عندما نتعمق بفهم العمليات النفسية التي يعاني منها المشاركين، فإن هذا العلاج يمكن أن يتقدم ويصبح أقوى بكثير.

 

شارك
نشر المقال:
فريق التحرير