فضاء

هل سنتمكن في يوم ما من رؤية الإنفجار الكبير؟

استطاع العلماء في الآونة الأخيرة تسجيل رقم قياسي جديد من حيث المسافات، حيث تمكنوا من رؤية وابل من أشعة غاما آتية من نجوم انفجرت عندما كان عمر الكون 520 مليون سنة، وهذا يعني أن الضوء القادم من هذا المصدر قد سافر لـ13,14 مليار سنة – أكثر من 95% من عمر الكون.

يسافر الضوء بسرعة كبيرة، فهو يقطع ما يقرب من 300,000 كم في كل ثانية، ولكن هذه السرعة محدودة، وهذا يعني أن العالم الذي نراقبه ليس كما هو عليه الآن، بل كما كان عليه عندما بدأ الضوء رحلته.

عند مشاهدة التلفزيون، يمكننا ببساطة تجاهل الوقت الذي يتطلبه الضوء كي يقطع تلك المسافة الصغيرة التي تفصل الشاشة عن أعيننا، ولكن لا يمكننا تجاهل هذا الأمر عند التحدث عن الكون، بل في الواقع، قد يكون بإمكاننا استخدامه لمصلحتنا.

ضوء المسافر

عند النظر إلى القمر، فإن ما نراه هو شكل القمر الذي كان عليه قبل أكثر بقليل من ثانية، في حين أن الضوء الآتي من الشمس يأخذ ثمانية دقائق للسفر من سطح الشمس إلى الأرض، ولكن عند التحدث بالمقاييس الكونية الحقيقية، فإن الوقت الذي يقطعه الضوء من مكان لآخر يصبح هائلاً، حيث أن الأمر يستغرق أكثر من 2 مليون سنة ليقطع الضوء المسافة الفاصلة بين أقرب المجرات إلينا، المرأة المسلسلة، ويصل إلينا.

هذا يعني أن بأنه كلما نظرنا أعمق في الفضاء، كلما توغلنا في رؤية الماضي، وهكذا يمكننا القول بأن تاريخ الكون بأكمله ممدود أمامنا لنراه، وفي الواقع، فإن رؤية الحقب المبكرة من الكون، والقدرة على مراقبة النجوم والمجرات في اللحظات الأولية لتشكلها، وسّعت إلى حد كبير من معرفتنا حول كيفية عمل الكون.

في السنوات الأخيرة، كانت وسائل الإعلام تضج بخبر اكتشاف أكثر الأجسام بعداً عنا – سواء أكانت تلك الأجسام مجرات جديدة أو انفجار اشعاعي كثيف ناتج عن انهيار أحد النجوم الفائقة- والتي بدأ ضوءها بالانطلاق بعد نصف مليار سنة فقط من الانفجار الكبير واستغرقت أكثر من 13 مليار سنة لتصل إلينا.

نظرا لهذا، يحق لنا أن نسأل، إذا ما استطعنا تطوير التلسكوب أكثر، فهل سيكون بإمكاننا سد هذا النصف الأخير من المليار سنة التي سبقت الإنفجار الكبير، ورؤية الانفجار الكبير نفسه؟

الحقيقة هي أننا قد رأينا أبعد ما يمكننا رؤيته من الماضي بالفعل ، وقد وصلنا إلى هذا الحد في الرصد في منتصف ستينيات القرن الماضي، ولفهم ذلك، علينا أن ننظر في تاريخ الكون.

الذرات ذات الحرارة المرتفعة

بعد ولادة الكون جراء الانفجار الكبير قبل 13.7 مليار سنة، كان الكون في البداية ساخناً وكثيفاً للغاية، وفي حالته تلك كان عبارة عن بحر من الإلكترونات والبروتونات والأشعة الضوئية التي تحلق في المكان وترتطم بقوة ببعضها لتعود وترتد مرة أخرى، وذلك بشكل مماثل للضباب الذي لا يمكن للضوء أن ينتقل خلاله بحرية.

بقي الكون بهذه الحالة لمدة تصل إلى 250,000 سنة، وخلال هذا الوقت، توسع الكون وانخفضت درجة حرارته لدرجة أن الإلكترونات والبروتونات أصبحت قادرة على الانضمام معاً لتشكيل ذرات الهيدروجين الأولى، ونتيجة لذلك، أصبحت أضواء الأشعة قادرة على السفر بحرية دون أن تواجه عوائق عبر الكون الذي تحول ليصبح شفافاً.

كيف يؤثر ذلك على طريقة رؤيتنا للكون؟

تخيل أنك تقف في ضباب كثيف، إن الضوء الذي يجعلك ترى الزهرة المجاورة لك، والتي لا تبعد أكثر من بضعة أمتار فقط، ينطلق من البتلات، ولكن سرعان ما يصيب قطرة ماء ويرتد في اتجاهات عشوائية متعددة، والنتيجة هي أن الضوء من البتلات والعشب والأشجار وكل شيء آخر يختلط معاً، لذلك فإن كل ما تراه عيناك هو جدار رمادي ضبابي الملامح.

ولكن ماذا لو اختفى الضباب فجأة، وأصبح بإمكان أشعة الضوء أن تسافر بحرية؟ عندها ستنكشف لنا الحديقة، ولكننا سنلاحظ بأنها كبيرة بما يكفي لتجعلنا نأخذ الوقت الذي ينتقل في الضوء من أرجائها إلى أعيننا بالحسبان، لذلك، نجد بأن الزهور الأقرب إلينا تظهر أولاً وتخرج من الضباب، ثم تبدأ الأشجار البعيدة بالظهور.

ولكن بعض الأشعة التي كانت تقفز في أرجاء المكان في الضباب أصبح بإمكانها الآن التوجه نحو أعيننا، لتصبح الحديقة مكشوفة بالنسبة لنا ضمن جدار واسع من الضباب، جدار رمادي من الانتشار الأخير، ينحسر عنا بسرعة الضوء، لذلك لا يكون بإمكاننا أن نرى أبعد من ذلك.

الحدود

هذا ما يحدث في الكون، وهذا هو الضوء الخارج من الضباب عالي الكثافة الذي تشكل في المراحل الأولى من تشكل الكون، والذي يضع الحدود على المدى الذي يمكننا فيه الرؤية خلال الماضي، ولهذا لا نستطيع أن نرى ما كان قبل 250,000 سنة بعد الانفجار الكبير.

يغمر هذا الضوء – الطول الموجي الذي امتدت وانخفضت حرارته بفعل عوامل مثل التوسع الكوني – الأرض الآن باعتباره الخلفية الكونية الميكروويفية، وقد تم اكتشاف هذا الإشعاع في ستينيات القرن الماضي، وهو الآن الهدف الذي تسعى إليه التجارب الحالية والمستقبلية مثل (WMAP) و(Planck).

في حين أن الضوء الذي اكتشفناه في الخلفية الكونية الميكروويف قطع 13.5 مليار سنة حتى وصل إلينا، فإن الذرات التي تولد منها كانت منفصلة عن الذرات التي شكلتنا في النهاية بـ40 مليون سنة ضوئية فقط ، ولكن منذ تلك الانبعاثات، ازداد توسع الكون إلى حد كبير، وأصبحت النجوم والكواكب التي تكونت من تلك الذرات الآن على بعد أكثر من 46 مليار سنة ضوئية.

قد يتسائل القارئ الآن عن الكيفية التي أصبحنا نعلم من خلالها الكثير عن المراحل المبكرة من تكون الكون – الثواني الأولى والدقائق الأولى التي كانت العناصر الأساسية فيها مجرة حساء – إذا ما كانت الحقبة مندثرة في الضباب الذي كان يغلف الكون في ذلك الوقت؟ والجواب هو: على الرغم من عدم استطاعتنا من رؤية هذه الحقب المبكرة، فإن قوانين الفيزياء لا تزال تنطبق عليها، ولهذا، يمكننا استخدام هذه القوانين للاستدلال على الأشياء التي لا يمكننا رؤيتها.

ولكن إذا أرجعنا عقارب الساعة الكونية إلى الوراء، فإن الكثافة ودرجة حرارة الكون قد تكون قد وصلت إلى نقطة لا تعود معها قوانيننا عن الجاذبية والقوى الأخرى، كما نعرفها في الوقت الحاضر، ممكنة التطبيق، لذلك وبدون حدوث ثورة في الفيزياء، فإن حقيقة ولادة كوننا ستبقى مخفية إلى الأبد عنا.

 

شارك
نشر المقال:
فريق التحرير