التصنيفات: علم النفس

ما هي العقلية التي تدفع الأشخاص للتمادي بثقتهم بأنفسهم؟

في خضم الحملات الانتخابية الرئاسية الأمريكية، خرج مرشح الحزب الجمهوري (دونالد ترامب) ليقول لمجموعة من أنصاره في ولاية أيوا، أن بإمكانه الوقوف في منتصف الجادة الخامسة وإطلاق النار على أحدهم، دون أن يفقد صوت أي ناخب، وهذا ما جعل مجلة (Politico) تنشر مؤخراً مقالاً وصفت فيه (ترامب) بأنه “سيلفيو برلسكوني الأمريكي” حيث شبهته برئيس الوزراء الإيطالي السابق المثير للجدل الذي أشار مرة لنفسه علناً بأنه “أفضل زعيم سياسي في أوروبا وفي العالم”!

سواء أسميت هذه الممارسات شجاعة أو غطرسة، فإن الرجال مثل (ترامب)، و(برلسكوني) لا يعانون بالتأكيد من عقدة نقص في الثقة، بل في الواقع، إن ثقتهم المفرطة الملفتة للنظر هي ما حيرت علماء بحوث النفس على مدى عقود.

كيف تستمر هذه الثقة المفرطة بالنفس؟

كما أشار عالم الأحياء التطوري (دومينيك جونسون) والخبير في العلوم السياسية (جيمس فاولر) في مقالة تم نشرها في عام 2011 في مجلة (Nature)، فإن الثقة المفرطة تؤدي إلى وقوع صاحبها بتقديرات خاطئة وتوقعات غير واقعية وقرارات خطرة، لذلك فإن كيفية استمرار هذه المعتقدات الخاطئة وتطورها في مجتمع يقوم على الإستراتيجيات التنافسية التي تشمل معتقدات دقيقة وغير متحيزة ما يزال لغزاً، لأنه عندما يتم وضع هذه التقديرات المفرطة على المحك، وهو أمر سيحدث لا محال، فإن المنطق يقول بأن بأن عواقب ذلك ستكون كبيرة.

ولكن هذا لا يحدث حقاً، فحتى الآن يلقي (ترامب) اللوم في فشله في ضمان ترشيح الحزب الجمهوري على النظام الانتخابي الأميريكي الذي وصفه بأنه “مزور” و”زائف”، و(برلسكوني)، ليس إستثناء أيضاً، ولكن لماذا يجهل الأشخاص الذين يمتلكون ثقة مفرطة بأنفسهم حدود إمكانياتهم؟

مؤخراً، بدأت البحوث الجديدة تُسلّط بعض الضوء على هذا اللغز، حيث يعتقد علماء النفس الاجتماعي (جويس  إيرلينجر)، (أينسلي ميتشوم)، و(كارول دويك)، بأن الجواب قد يكمن في المعتقدات الضمنية التي يمتلكها الأشخاص الذين يمتلكون ثقة مفرطة بالنفس حول مرونة الشخصية والقدرات، فقد أظهرت عقود من البحث من قبل (دويك) وغيرها بأن بعض الأشخاص يرون بأن الشخصية والذكاء هما أمران “ثابتان” نسبياً (أي أن الشخص ولد بهذه الطريقة ولا يمتلك القدرة على فعل أي شيء لتغيير ذلك)، بينما يعتقد البعض الآخر بأن هذين الأمرين يمكن أن يكونا مرنين، ويمكن أن يتغيرا ويتطورا من خلال بذل الجهد واكتساب المزيد من الخبرة.

هذه المعتقدات تمتلك آثاراً عميقة على الكيفية التي نرى أنفسنا والآخرين من خلالها، ومدى قدرتنا على التعلم (أو عدمه)، فعلى سبيل المثال، فإن الأشخاص الذين يمتلكون عقلية ثابتة يميلون لأن يكونوا أكثر اهتماماً بإثبات أو إظهار أنفسهم على  أنهم أذكياء، وذلك بدلاً من البحث عن فرص ليصبحوا من خلالها أكثر ذكاءً.

تعتقد (إيرلينجر) وزملاؤها بأن الثقة الزائدة قد تكون جانب آخر عادة ما يتم التغاضي عنه من عقلية التفكير المتحجر، ففي دراستهم، قام مجموعة من الطلاب بحل مجموعة من المسائل التي تختلف في صعوبتها، وقبل معرفة نتائجهم، طُلب من الطلاب تقدير أدائهم، وبالنتيجة، أطلق الطلاب من ذوي العقلية الثابتة تقديرات تنم عن الثقة المفرطة في الواقع، حيث كانت تقديراتهم أعلى بأكثر من 25% من درجاتهم الفعلية، في حين بالغ الطلاب الذين يعتقدون بأنهم يمتلكون قدرات مرنة (أي “عقلية النمو”) ب في تقديرهم لنتائجهم بنسبة 5% فقط، لذلك، يبدو أنه إذا كنت تعتقد بأنك تمتلك قدرات ثابتة، فإن هذا الاعتقاد سيحفزك على تضخيم تلك القدرات.

لمعرفة السبب الذي يجعل هذه المبالغة في تقدير القدرة تستمر في الوجود لدى صاحبها، كان على (إيرلينجر) وفريقها إجراء أبحاث أعمق قليلاً من ذلك، فعند البحث في الكيفية التي تناول فيها الطلاب الاختبار، أدركوا بأن الطلاب الذين يمتلكون عقلية ثابتة قضوا معظم وقتهم في محاولة حل المسائل السهلة، ووقتاً أقل في حل الأصعب منها، وبعبارة أخرى، فقد قاموا بالتركيز بشكل انتقائي على المسائل التي تعزز من ثقتهم المفرطة بأنفسهم، أي التأكيد على نظرتهم الواثقة بأنفسهم، وتجاهلوا كل شيء آخر بقدر الإمكان.

هذا النمط يتناسب مع أبحاث أخرى تم إجراؤها حول العقليات الثابتة، والتي ربطتهم بمجموعة من النتائج المؤسفة، فالأشخاص الذين يعتقدون بأنهم يمتلكون قدرات ثابتة عادة ما يكونون الأكثر عرضة لتجنب صعوبات، وعدم بذل ما يكفي من الجهد في مواجهة النكسات، والاستجابة على نحو دفاعي عند مواجهتهم للتحديات، كما يكونون أكثر عرضة أيضاً للتسرع في الحكم والتفكير بطريقة نمطية، والسعي للانتقام بعد خوضهم للصراع، وأكثر ميلاً لعقاب المخالفين بطريقة أشد قساوة.

علاوة على ذلك، فإن الأدلة المتوفرة لدينا تشير إلى أن هؤلاء الأشخاص مخطئون، فالشخصية والقدرات لا تتمتعان بالثبات، وهذا لا يعني أنه لا يوجد شيء يبقى ثابتاً مع الشخص مع مرور الوقت، ولكن إحدى الدراسات الطويلة التي درست سمات الشخصية وجدت بأن الصفات تختلف اختلافاً كبيراً مع التقدم في السن، تماماً كما تبين بأن درجات معدل الذكاء يمكن أن ترتفع إذا ما تم وضع الشخص الذي يأخذ الاختبار في بيئات تعليمية أكثر ثراء، وعلى الرغم من وجود حدود لذلك، إلّا أنه يمكن للأشخاص أن يتغيروا إذا ما قاموا ببذل المزيد من الجهد واكتساب خبرات جديدة.

من الجدير أن نشير هنا إلى أن الثقة المفرطة قد يكون لها بعض الفوائد في ظل ظروف مناسبة، فبعض الدراسات، على سبيل المثال، تبين بأن الأشخاص الذين يمتلكون ثقة مفرطة بأنفسهم يميلون لأن يعتلوا مناصب عليا، والآخرين (على الأقل على المدى القصير) يعتبرونهم أكثر قدرة من غيرهم، حيث أشار كل من (جونسون) و(فاولر)، أن هناك أدلة دامغة تشير إلى أنه عندما تكون تكلفة القيام بشيء منخفضة نسبياً والمكاسب المحتملة مرتفعة، يمكن للثقة المفرطة أن توفر ميزة تقدمية.

لذلك، ربما تستمر الثقة المفرطة بالنفس بالتواجد لدى الأشخاص مثل (ترامب) و(برلسكوني)، على الأقل جزئياً، لأن نحنا من نسمح لهم بأن يفلتوا من العقاب، فنحن دائماً ما نخلط بين الأشخاص المتغطرسين وأصحاب القدرات الحقيقية، فكما يحذّر (توماس تشامورو-بريموزيك) في كتابه، ليس هناك طريقة أفضل من أن نكون مخطئين حول كفاءة شخص آخر سوى من خلال الحكم عليه عبر ثقته بنفسه، (فنحن نعلم بأن كل الزرافات هي ثدييات ولكن ليس كل الثدييات هي زرافات، وفي ذات السياق، الأشخاص الذين يمتلكون قدرات عالية عادة ما يكونون واثقين بأنفسهم، ولكن معظم الأشخاص الذين يثقون بأنفسهم ثقة مطلقة لا يستحقون فعلاً أن يكون كذلك).

لذلك، بدلاً من استخدام الثقة كمؤشر سريع وسهل عن امتلاك الشخص للخبرة، نحن بحاجة إلى النظر في سجل الشخص من الأفكار والإنجازات في قرارات التوظيف والمشاركة، أو حتى عندما نقرر من الذي يجب أن يدير البلاد.

 

شارك
نشر المقال:
فريق التحرير