التصنيفات: علم النفس

ماذا ستكون ردة فعل البشر إذا تمت شخصنة الذكاء الاصطناعي؟

تبدو (صوفيا بن عاشور) وكأنها طالبة لندنية نموذجية، حيث أنها تمتلك شعر قصير بني اللون، وعينين لامعتين، وابتسامة واسعة، يمكنها أن تجلس معك وتتحدث عن الطقس، الموسيقى، وحياتها في تدريس اللغة الإنجليزية للطلاب الأجانب، تلك الفتاة تبدو عادية لدرجة أنك لن تصدق بأن عقلها يتم التحكم به من قبل مجموعة من المعالجات على بعد أكثر من 200 ميلاً.

بشكل أكثر دقة، تعتبر صوفيا بأنها “متكلم بأفكار الروبوت” (echoborg)، أي بمعنى آخر هي شخص على قيد الحياة وهب نفسه مؤقتاً ليصبح متحدثاً بلسان الروبوت، بحيث يكون كل ما يقوله ناشئ في الأساس عن روبوت محادثة متصل بشبكة الانترنت يصل إلى (صوفيا) ما يقوله من خلال سماعة أذن صغيرة.

على الرغم من أن هذا يبدو خيالياً بعض الشيء، لكن هذه التجربة الغريبة يتم إجراؤها للوصول إلى هدف خطير حقاً، حيث يسعى الباحثون في كلية لندن للاقتصاد لفهم الطريقة التي يمكن للجسم والذكاء الاصطناعي المجسم أن يصوغ توقعاتنا، وهذا الأمر مهم جداً لفهمنا لنظم الذكاء الاصطناعي، خاصة وأنه في المستقبل قد نكون محاطين بالآلات التي لا يمكن تمييزها عن البشر، لذلك فنحن بحاجة لنعرف كيف ستكون ردود فعلنا تجاه هذا الموضوع.

تبعاً ل(كيفن كورتي)، وهو أحد الباحثين في فريق العمل، فإن معظم أشكال الذكاء الاصطناعي الذي نصادفه في هذه الأيام تمتلك لواجهة آلية جداً، لذلك فإن دمج جسم إنسان، مع عقل روبوت، كان إحدى الطرق المتاحة لجعل الأشخاص يعتقدون بأنهم يواجهون شخص آخر فعلاً وليس نوع من أنواع الذكاء الاصطناعي.

استوحى كل من (كورتي) وأستاذه (اليكس غيليسبي) المشرف على عمله هذه التجربة من تجربة (cyranoids)، وهي تجربة اخترعها الطبيب النفسي المثير للجدل (ستانلي ميلغرام)، المعروف بتجربته السيئة السمعة حول الطاعة، ولكن بحلول نهاية حياته، يبدو بأن (ميلغرام) قد تحول لمعالجة موضوع ألطف من مفهوم الجسم، حيث أن إحدى الإشكاليات التي طرحها كانت تتمثل في حيقيقة إن كنا نستمع حقاً لما يقوله الأشخاص الذين نتحدث معهم لنكوّن آراءنا عنهم، أم أن آرائنا تتشكل بشكل مسبق استناداً إلى شكل الشخص.

لمعرفة ذلك، استعان (ميلغرام) بمشهد من مسرحية سيرانو دي برجراك (Cyrano de Bergerac) وهي مسرحية تعود للقرن 19، حيث كان (دي برجراك) يظهر بشخصية جندي بارع، وشاعر بارع، وموسيقي ماهر، ولكنه كان يعتبر نفسه قبيحاً جداً لجذب ابنة عمه الجميلة (روكسان)، لذلك وبدل أن يحاول الفوز بقلبها، بدأ يقدم المساعدة لمنافسه الوسيم ولكن الغبي (كريستيان) للفوز بيدها، وأصبح يخبره بالضبط ما يجب عليه قوله بحيث أصبح (كريستيان) يشكل نسخة أخرى من (سيرانو)، أي أصبح (cyranoid)، وفي المشهد الأكثر شهرة من المسرحية، يظهر (سيرانو) وهو يحاول الاختباء خلف مجموعة من الشجيرات، ويدفع بـ(كريستيان) لتكرار الكلام المعسول لـ(روكسان) التي كانت تقف على شرفة منزلها.

من خلال إعادة تمثيل الحالة، استنتج (ميلغرام) بأن هذه التجربة ستكون الوسيلة المثالية لاختبار مدى تأثير أشكال أجسامنا على تزويد أذهاننا بالتصورات، لذلك قام (ميلغرام) بإنشاء تجربة كان يتم إعطاء الكلمات فيها للـ(cyranoid)، وهو شخص مستوحى من شخصية (كريستيان) لا يتحدث بما يفكر فيه بل وفقاً لما يتم تلقينه إياه من قبل شخص آخر، وهذا الشخص في هذه التجربة كان في غرفة أخرى يتحدث من خلال جهاز لاسلكي صغير موضوع في أذن الـ(cyranoid)، وتماماً كـ(روكسان) في المسرحية، لم يكن الأشخاص الآخرين يعلمون بأن هناك شخص آخر يتكلم بلسان الشخص الذي أمامهم.

كان (ميلغرام) مندهشاً لاكتشافه بأن معظم الأشخاص أجروا محادثات طويلة امتدت لـ20 دقيقة مع الـ(cyranoid) دون أن يلاحظوا بأن هناك أي شيء خاطئ، بعد ذلك بدأ (ميلغرام) بدفع التجربة أكثر وأكثر، لرؤية ماذا يحدث عندما يقوم أستاذة كبار في العمر بالسيطرة على طفل صغير، على سبيل المثال.

توفي ميلغرام في عام 1984، قبل أن ينهي تحقيقاته، وظلت تجربته مع الـ(cyranoid) منسية لعقدين من الزمن قبل أن يقرر (غيليسبي) إعادة النظر في هذه الفكرة، وكانت إحدى أولى محاولاته لتكرار تجارب (ميلغرام) مع الـ(cyranoid) هي من خلال استخدام طفل صغير، حيث قام (غيليسبي) بتلقين بعض الجمل لصبي يبلغ من العمر 11 عاماً كان يجري استجوابه من قبل فريق من الأشخاص الكبار، وكانت النتائج مثيرة للدهشة أيضاً، حيث لم يقم أحد من المشاركين بالتشكيك في موضوع العلم الذي يحوزه هذا الطفل الصغير بالعمر، على الرغم من أنهم كانوا قد سألوه عن الجرافين، و(هنري جيمس)، وعن وفاة (مارغريت تاتشر)، وعن الأزمة المالية، ولكنهم مع ذلك كانوا يقولون بأنه من المحتمل أن يكون هذا الصبي ذكياً جداً، حيث قد يكون عمره العقلي 15 عام مثلاً.

الزومبي الأحياء

النقطة الفلسفية هنا هي أن الأشخاص سيئون حقاً في معرفة ما إذا كان الشخص يتصرف بمحض إرادته، أم أنه يتصرف وفقاً لأوامر شخص آخر، فمهما كان مدى التناقض بين شكل الجسم والمحتوى العقلي كبيراً، فإن أحداً لن يلاحظ ذلك، أو بعبارة أخرى، فإن البشر يخدعون بالمظاهر ولا يحاولون الحكم على جوهر أفكار الشخص الذي أمامهم.

انطلاقاً من هنا، بدأ كل من (كورتي) و(غيليسبي) التفكير في دفع اختباراتهم نحو حافة أخرى، وعندها فكروا في إمكانية المضي قدماً في هذه الاختبارات لمرحلة لا يكونون فيه بحاجة لشخص لتوليد الكلمات، وكانت النتيجة هي (echoborg)، وهي سلالة جديدة من (cyranoid) يتلقى خلالها الشخص الكلمات من روبوت متحدث، بدلاً من شخص حقيقي، حيث يأمل (كورتي) بأن استخدامه لهذه الطريقة يمكنه من أن يلقي نظرة خاطفة على المستقبل، عندما ستصبح الروبوتات أكثر واقعية، فبحسب (كورتي)، على الرغم من أننا لا نزال بعيدين جداً عن إعطاء واجهة بشرية للروبوتات، ولكن يمكننا أن نقفز نحو تلك الحقبة ونضع عقل آلة في جسم إنسان، لنرى ماذا سيحدث.

في إحدى التجارب، كان المشاركون سذجاً للغاية، فكما كان (ميلغرام) قد تنبأ، الغالبية العظمى من المشاركين لم يستطيعوا أبداً ملاحظة أنهم كانوا يتحدثون إلى كلام متولد عن برنامج كمبيوتر، عندما أجروا محادثات مع (صوفيا)، حيث أنهم كانوا يفترضون فقط بأن الشخص كان يعاني من بعض المشاكل، ولم يعتقدوا لثانية واحدة بأنهم كانوا يتحدثون إلى شخص “هجين”.

كثيراً ما شككت أفلام الخيال العلمي في إمكانية اندماج الروبوتات في مجتمعنا، لدرجة لا نعود نميز بين من هو على قيد الحياة وما هو إلكتروني، ولكن تجارب (كورتي) تشير إلى أنه حتى مع محدودية أنظمة الذكاء الاصطناعي التي نمتلكها اليوم، فإننا بالفعل يمكن أن ننخدع بسهولة أكثر مما كنا نتصور.

الجيد في الموضوع، هو أنه عندما قام الباحثون بتكرار اختبار (صوفيا) والذكاء الاصطناعي، ولكن بعد إخبار المشاركين بأنه يوجد احتمالية لأن يكون حديثهم دائراً مع روبوت، وإن عليهم أن يخمنوا الشخصية التي يتحدثون إليها، فإن المشاركين استطاعوا تحديد الشخصية بنجاح أكثر من المرة الأولى.

وهنا يتظهر المفارقة، حيث أنه من دون أن يعلم البشر بأنهم يتحدثون إلى برنامج ذكاء اصطناعي، فإنهم ببساطة يفترضون بأن شريكهم في المحادثة يعاني من بعض المشاكل الغريبة في السلوك، ولكن بمجرد أن يعرفوا بأن الشخص الذي أمامهم قد لا يكون إنساناً، فإنهم سرعان ما يميزون أخطاءه.

بحسب (كورتي)، إدراكنا للذكاء الاصطناعي قد يكون ما يزال فوق مقدرة تخيلنا، ولكن معرفتنا بأن ما نتعامل معه هو شيء غير بشري قد يحد من رغبتنا في التفاعل معه بطريقة إنسانية.

غريب أم محرج؟

يهتم (غيليسبي) بشكل خاص بالمعضلات الناجمة عن هذا النوع من اللقاءات، فالأشخاص لا يمكنهم كسر مجال الرؤية بسهولة عندما يكون هناك تواصل بالأعين، حتى لو كان الحديث يحتوي على بعض الأخطاء السلوكية، في حين أنه إذا كنت تتحدث مع شاشة مثلاً فإنك لن تكون بمثل هذا الإحراج، وهذه الفكرة الغريبة ستجعل الشعور الأولي الذي سنواجهه عند التقاء روبوتات تمتلك أشكالاً بشرية في المستقبل هو الحرج وليس الرعب الذي تتنبأ به أفلام الخيال العلمي.

التغلب على هذا النوع من المشاكل سيكون أمراً ضرورياً إذا ما كنا نسعى لأن يصبح الذكاء الاصطناعي جزءاً من حياتنا، ولهذا السبب يحرص كل من (كورتي) و(غيليسبي) على مواصلة تجاربهما على الـ(echoborg)، فبحسب (جيليسبي)، إذا ما نظرنا إلى التاريخ، فقد يخيل لنا بأنه كان مدعوماً من قبل التكنولوجيا، ولكن الأمر ليس كذلك، فما يؤثر في التاريخ حقاً هو الرأي العام، وهو ما سيقرر ما إذا كانت هذه الروبوتات ستصبح شائعة في الشوارع كتسلمها لمهام ضباط شرطة أو ما إلى ذلك، لذا نحن بحاجة لإجراء الكثير من العمل لنرى كيف يمكن للبشر أن يتعاملوا مع مثل هذه الأشياء.