التصنيفات: فضاء

سعي أمريكا للحصول على الاستقلال الفضائي

إن السعي الأمريكي نحو امتلاك القدرة على إطلاق الرحلات المأهولة من الأرض إلى الفضاء حقق نتائجاً تطورية في صناعة الفضاء التجارية، ففي كانون الأول/سبتمبر من عام 2014 أبرمت وكالة (ناسا) عقداً مع شركتي (بوينج) و(سبيس اكس) بخصوص الاستثمار في مجال النقل الفضائي والذي تبلغ قيمته ما يعادل 6.8 مليار دولار أمريكي، هدف العقد هو الإسراع في تطوير وإنتاج مركبات فضائية تجارية متخصصة قادرة على إجراء عمليات النقل من المدار الأرضي المنخفض إلى محطة الفضاء الدولية، ولكن ما هي العوامل الدافعة وراء هذا التغيير، وكيف يمكن للبدائل التي تنوي ناسا استعمالها أن تحل مكان برنامج (سويوز) الروسي للنقل الفضائي؟

لسنوات عديدة كانت المركبات الفضائية الروسية التابعة لبرنامج (سويوز) هي المركبات الوحيدة (أو الخيار الوحيد) التي تقوم بنقل رواد الفضاء من وإلى محطة الفضاء الدولية، حيث دخلت هذه المركبات للخدمة بتاريخ 1967 كمنافس شرس لبرنامج (أبولو) الأمريكي، وتاريخ مركبات (سويوز) الفضائية لا يخلو من الأخطاء، فالرحلات الفضائية التابعة لهذا البرنامج شهدت عدداً من الوفيات، والتي شملت وفاة قائد أول بعثة مأهولة إلى الفضاء (فلاديمير كوماروف) والذي لقى حتفه أثناء هبوط المركبة بسبب فشل نشر المظلة، وبعد هذه الحوادث خضعت المركبات الفضائية التابعة للبرنامج لسلسة من الإصلاحات، حتى أصبحت هذه المركبات العمود الفقري للنقل الفضائي من وإلى محطة الفضاء الدولية، ونتيجة لاحتكار (سويوز) للنقل الفضائي، بدأت تفرض شروطها على وكالة الفضاء الأمريكية، مما دفع الولايات المتحدة إلى محاولة إيجاد بدائل محلية لهذا البرنامج.

إن العلاقة بين وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) ووكالة الفضاء الروسية (روسكوزموس) فيما يخص العمليات التي تجري على متن محطة الفضاء الدولية، يمكن اعتبارها علاقة سلام مقارنة بتوتر العلاقات ما بين الحكومتين الأمريكية والروسية، ولكن في الآونة الأخيرة انتقل التوتر السياسي الذي يدمغ علاقة الحكومتين إلى الفضاء، لتصبح معه علاقة وكالتي الفضاء الروسية والأمريكية متوترة أيضاً.

على الرغم من أن عدم الاستقرار السياسي قد يبرر سبب محاولة الولايات المتحدة إيجاد بدائل محلية لبرنامج الرحلات المأهولة للفضاء، إلا أن الخطط الأمريكية للتخلي عن برنامج النقل الفضائي الروسي ظهرت قبل احتدام الصراع الدبلوماسي ما بين الدولتين، وهذا ما يمكن أن نلسمه من تصريح الرئيس (أوباما) في خطابه الذي ألقاه في عام 2010 في مركز (كينيدي) للفضاء، والذي أشار فيه إلى أن شراء خدمات النقل الفضائي  بدلاً من شراء  المركبات الفضائية بحد ذاتها، سيعمل على ضمان استمرارية تلبية معايير السلامة الصارمة التي يجب تطبيقها في الفضاء، وأضاف بأن هذا يفرض على الولايات المتحدة تسريع وتيرة الابتكارات التي تقوم بها الشركات الناشئة لتصميم وبناء وإطلاق وسائل نقل جديدة تعمل على حمل رواد الفضاء والبضائع إلى الفضاء.

السبب الآخر الذي دفع الولايات المتحدة للتخلي عن الخدمات الفضائية الروسية، هو الجانب الاقتصادي، فالعقد الذي أبرمته الحكومة الأمريكية مع روسيا في أبريل عام 2014 يتضمن أن تدفع أمريكا لروسيا مبلغ 76.3 مليون دولار وسطياً على كل رائد فضاء، وتعهدت (سويوز) بموجب عقد أبريل أن تهيئ مقاعداً لستة رواد فضاء في الفترة الممتدة من عام 2014 وحتى 2017، وبالتالي يبلغ مجموع المبلغ الذي ستدفعه الولايات المتحدة 458 مليون دولار عن هذا العقد، وعلى الرغم من أن هذا المبلغ يشمل تكاليف عمليات التدريب والطيران ونقل البضائع الصغيرة من وإلى محطة الفضاء الدولية، كما يشمل خدمات العودة إلى الأرض وعمليات الإعادة إلى الأرض في حالات الطوارئ، إلا أن الولايات المتحدة ترى بأن هذا النظام مكلف وغير اقتصادي من الناحية المالية، خاصة بعد الالتزام الأمريكي الذي يتضمن توسيع نطاق العمليات على متن محطة الفضاء الدولية حتى عام 2024 على الأقل، وهذا يعني أن الحكومة الأمريكية ستجبر على ابرام عقود إضافية مع الحكومة الروسية للالتزام بالتعهد الذي أطلقته والذي يقتضي منها مواصلة تقديم الخدمات للمحطة الدولية سواء عن طريق امداد المحطة بالطاقم أو بالمعدات، لذا ارتأت الولايات المتحدة الأمريكية ابرام عقد مع شركتي (بوينج) و (سبيس اكس) والذي يسمى بعقد (CCtCap) بهدف تشجيع نمو صناعة الفضاء التجارية الأميركية، مما سيسمح لـ(ناسا) وشركائها بالوصول إلى المحطة الفضائية الدولية بشكل أكثر انتظاماً وبتكلفة أقل .

يشمل عقد (CCtCap) مرحلتين أساسيتين، المرحلة الأولى تتضمن دفع مبلغ 10 مليون دولار لكل من شركة (بوينج) وشركة (نيفادا سييرا) ومبلغ 9.5 مليون دولار لشركة (سبيس اكس)، والهدف من هذا العقد الأولي هو تطوير البيانات والمنتجات الأولية اللازمة لتحقيق متطلبات السلامة والتي تتطلبها وكالة ناسا في البعثات البشرية التي يكون هدفها الوصول إلى محطة الفضاء الدولية، أما المرحلة الثانية والنهائية من العقد فتتضمن دفع مبلغ تمويلي بقيمة 6.8 مليار دولار، يجري تقسيمها بين شركتي (بوينج) و (سبيس اكس)، بواقع 4.3 مليار دولار لـ(بوينج)، و2.6 مليار دولار لـ(سبيس اكس)، وبالطبع فإن شركة (نيفادا سييرا) كانت من أشد المحتجين على هذا القرار المجحف بحقها.

قامت وكالة (ناسا) بخطوة تشجيعية بالتصريح بأن المركبة الفضائية المصنعة من قبل (ناسا) والمسماة (Orion) لن تكون منافسة للمركبات الفضائية التي تصنعها شركتي (بوينج) و (سبيس اكس)، حيث صرح (تشارلي بولدن) مدير وكالة (ناسا) في أكثر من مناسبة بأن مركبة (Orion) لم يتم تصميمها لخدمات النقل إلى محطة الفضاء الدولية، على الرغم من أنها قادرة على أداء هذه المهام، وأكّد أن المركبة لن تستخدم في هذه الغاية إلا في حال كانت المركبة الفضائية التابعة لشركتي النقل الفضائي في حالة لا تسمح لها بالعمل، وطبعاً من الواضح أن الهدف من هذه التصريحات هو تشجيع النمو في القطاع الفضائي الأمريكي عن طريق طمأنة شركتي النقل الفضائي إلى أن (ناسا) لن تتخلى عنهما في منتصف الطريق.

إن المركبة الفضائية التي تنوي شركة (بوينج) استعمالها تسمى (CST-100)، وهذه المركبة قادرة على نقل البضائع كما أنها تتسع لسبعة رواد فضاء، وتعد أهم ميزة لهذه المركبة هي القدرة على إعادة استخدامها لأكثر من 10 مرات في رحلات الذهاب والعودة من محطة الفضاء الدولية، كونها مجهزة بدرع واقي من الحرارة  يقيها من حرارة الاحتكاك بالغلاف الجوي، وهي بذلك تتفوق بأشواط على مركبات (سويوز) الصالحة لاستخدام واحد فقط، زد على ذلك بأن مركبة (CST-100) تستخدم تقنيتي المظلات أو الوسائد الهوائية لإبطاء السرعة وإجراء الهبوط، وهي بذلك تكون صالحة للهبوط على البر أو على البحر.

أما شركة (سبيس اكس) فإنها ستعتمد على مركبة (Dragon V2) الفضائية والتي ستُحمل على منصة صاروخ (Falcon 9) ، وإن مركبة (Dragon V2)  يمكنها أن تتسع لسبعة رواد فضاء، كما يمكن استعمالها لتكون بمثابة سفينة امداد وإيصال بضائع، كما يمكن أن يتم استخدام هذه المركبة كمختبر مستقل آلي للجاذبية الصغرى في الفضاء، وتعتمد المركبة في الهبوط على استعمال تقنية المظلات والمحركات الصاروخية الصغيرة التي تعمل قبل أن تلامس المركبة الفضائية الأرض بهدف تخفيف قوة الاصطدام إلى حدها الأدنى.

أخيراً، فإن كلا المركبتين الفضائيتين ستخضعان لرحلة تجريبية قبل حلول موعد العقد في عام 2017، حيث سيتم ارسال رائد فضاء من قبل (ناسا) على متن كل مركبة ليعمل على تقييم أداء المركبتين، وخلال الرحلة التجريبية سيتم اجراء اختبارات مناورة فضائية للمركبة وبعدها ستلتحم مع محطة الفضاء الدولية، وبمجرد الانتهاء من برامج الاختبار، فستعمل (ناسا) على نقل أربعة رواد فضاء إلى محطة الفضاء الدولية، بدلاً من العدد القياسي الذي كان يتم نقله على متن مركبات (سويوز) والبالغ ثلاثة رواد، وإن قدرة ناسا على دعم المحطة الفضائية برائد فضاء إضافي في كل مرة سيزيد من معدل الأبحاث الجارية في المحطة وسيقلل من الوقت المتطلب لإجراء هذه الأبحاث، بعدها سيتم التعامل مع شركتي النقل التجاريتين على أساس المهمة، بدلاً من العدد، بمعنى أنه ستتم محاسبة الشركتين على كل مهمة بغض النظر عن عدد الرواد الذين سيكونون على متن المركبة.

شارك
نشر المقال:
فريق التحرير