التصنيفات: فضاء

بين الحقيقة والخيال: هل حقاً استطاعت البشرية رؤية بلوتو؟

لا يمكن وصف الصورة التي التقطها مسبار نيو هورايزون (New Horizons) لكوكب بلوتو والتي قام ببثها إلينا عبر مسافة تصل إلى 3 مليارات ميل من الفراغ، سوى بكلمة واحدة، “إنها ساحرة”، فتلك الجبال الشاهقة من الجليد، والسهول السلسة، والمناظر الطبيعية الغريبة الواسعة، تعتبر مذهلة ليس فقط لأنها تخبرنا عن كوكب بلوتو، ولكن لكونها أيضاً تعطينا ذلك الشعور بالتعجب عند رؤية شيء لم تستطع البشرية حتى الآن إلّا تخليه والتكهن به فقط.

ولكننا هل ما نراه ضمن هذه الصورة هو حقاً كوكب بلوتو؟

إذا كنتم تتساءلون، فإن بعثة نيو هورايزون (New Horizons) ليست خدعة، فالبشر قاموا حقاً بإرسال روبوت صغير لكل تلك المسافة، وعلى الرغم من أن بعض الأشخاص يدعون بأن صور بلوتو الملتقطة أثناء مرور الروبوت بجانب الكوكب هي مجرد خدعة، على غرار نظريات المؤامرة التي تشكك في هبوط مركبة أبولو على سطح القمر، فإن هذا ليس صحيحاً، فقد أنفق مسبار نيو هورايزون أكثر من تسع سنوات حقاً ليعبر النظام الشمسي ويأتي لنا بلمحة عن بلوتو، لذلك هذا ليس ما نعنيه بسؤالنا.

ما نعنيه هو أن هناك شيء بيننا وبين بلوتو إلى جانب الفضاء الشاسع، فنحن قد رأينا هذا الكوكب بالاستعانة بجهازي الاستشعار اللذان تم تثبيتهما على مسبار نيو هورايزن، واللذان يدعيان (لوري) و(رالف)، لذلك ينبغي لنا أن نكون متشككين فلسفياً وبعمق  حول ما إذا كان ما نراه يحمل ذات المعنى الذي نضفيه عليه أم لا، حيث أن معنى كل صورة يتحدد بالتكنولوجيا التي ساهمت في التقاطها، والتي نشرتها، وبقدرة الأشخاص على فهم ما يرونه، لذلك فإن سؤال “هل هذه الصورة حقيقية؟” لا يلّح فقط على الأشخاص في المجال العلمي، بل وفي المجال الفلسفي والفني كذلك، فنحن بالكاد يمكننا أن نثق تماماً بما تراه أعيننا وعقولنا، والتكنولوجيا تجعل هذه المشكلة أسوأ.

نشأت هذه الصورة من اجتماع صور متعددة التقطتها ثلاث كاميرات متطورة على متن مسبار نيو هورايزون، وهي (أليس) التي هي في الأساس عبارة عن مطياف تصوير بالأشعة فوق البنفسجية، والمصور الاستطلاعي الطويل المدى (لوري) والذي هو في الأساس عبارة عن كاميرا رقمية تلتقط صور بالأبيض والأسود باستخدام عدسة مقربة بفتحة 8.2 بوصة، و(رالف) الذي يتميز بقدرته على التقاط ثلاثة صور بالأسود والأبيض وأربعة صور بالألوان، وهو يعتبر “عين” المسبار، وهو السبب الذي يجعلنا نرى هذه الألوان الزاهية في الصورة، وتبلغ دقته 10 أضعاف دقة العين البشرية، لذلك وتبعاً لناسا، فإن ما نراه بالصورة هو ما سنراه بأعيننا إذا ما ذهبنا إلى هناك وشاهدنا الكوكب بأعيننا المجردة.

ولكن في حين أن هذا قد يكون صحيحاً، فإن حقيقة عدم وجود أحد قد رأى بلوتو على الإطلاق بالعين المجردة، يطرح مشكلة فلسفية في فكرة “رؤيته”، فعلى اعتبار أنه لا يمكننا فعلاً زيارة بلوتو، لذلك قمنا بإرسال المسبار، ووضعنا ثقتنا بأنه خيارنا الوحيد لرؤيته، ولكن التكنولوجيا لا تستطيع تقديم صورة لكل المعضلات التي نعاني منها، وفي معظم الأحيان لا يكون العلماء أكثر ثقة حول ما يوجد في الفضاء من بقية الأشخاص العاديين.

تعتبر صورة “أعمدة الخلق” خير مثال على هذا، فهذه الصورة المذهلة التي التقطها تلسكوب هابل الفضائي في عام 1995، تظهر ثلاثة أعمدة ضخمة غير طبيعية مكونة من الغاز البارد في سديم النسر الذي يقع على بعد حوالي 7000 سنة ضوئية من الأرض، ولكن في العام الماضي، قامت ناسا بإعادة توجيه هابل مرة أخرى إلى السديم، أملاً في الحصول على نظرة أكثر إذهالاً باستخدام الأشعة القريبة من تحت الحمراء (والتي لا يمكن أن يراها البشر بأعينهم المجردة)، إلى جانب أشعة الضوء المرئي، إلّا أن هناك احتمال بأن تكون هذه الأعمدة قد اختفت الآن، وإذا كانت لا تزال موجودة، فإن إحدى الدراسات بينت بأنها قد تكون متنكسة، وذلك لأن هابل عندما التقط الصورة، كان ما فعله في الحقيقة هو التقاط ضوء قديم، سافر لمسافات غير معلومة في جميع أنحاء الكون حتى وصل إلى عدسته، ومن هنا يمكن القول أنه على الرغم من أن هذه الصورة هي في جوهرها حقيقة، إلّا أنها ليست سوى صورة لذكرى ميتة لا أكثر.

بحسب (سوزان سونتاغ) وهي كاتبة ومخرجة عالمية، فإن الصورة تقدم دليلاً قاطعاً بأن شيء معين قد حدث بالفعل، ولكن هذه الصورة قد تتعرض للتشويه، فهناك دائماً مساحة لافتراض وجود الشيء أو عدم وجوده في الصورة.

جميع الصور ابتداءاً من الصور الملتقطة بكاميرات الأي فون إلى الصور التي يلتقطها التلسكوب في أعماق الكون، تتشكل من سلسلة من القرارات التي يتخذها المصور أو المسبار، مثل التركيز، وبعد المسافة، ومقدار الإضاءة، والتباين، ولهذا السبب لا يمكن اعتبار الصورة على أنها دليل لا خطأ فيه، ففي النهاية الصورة تعبر عن وجهة نظر الشخص الذي يلتقطها، فهو الذي يختار النقطة التي سيصورها، وكيفية تصويرها، وكيفية معالجة الصورة وإخراجها، لذلك فنحن لا نرى ما تراه عدسة الكاميرا، بل كل ما نراه هو ما تنتجه، وبإرسال الجهاز إلى مسافة أكثر من ثلاثة مليارات ميل، فإن هذه الفجوة قد تتسع على نحو أكبر، وبحسب (سونتاغ)، فإنه لا يمكن لأحد أن يمتلك الحقيقة، فكل ما يمكنه امتلاكه هو صور عنها فقط لا غير، لذلك فإن الصورة التي تم التقاطها لبلوتو لا تعبر عن بلوتو أكثر مما تعبر لوحة رينيه الزيتية للغليون عن الغليون، أي بمعنى آخر فإن هذه الصورة ليست سوى صورة تمثيلية، تعبر عن شيء حقيقي، ولكنها يمكن أن تتغير في أي وقت.

حاول الفيلسوف (إيان هاكينج) مساعدة العلماء على فهم هذا الموضوع من خلال مقالته التي تم نشرها في عام 1981 تحت عنوان “هل نرى من خلال المجهر”، حيث أشار إلى أنه من الصعب أن نعرف بالضبط ما نراه عندما ننظر إلى الشيء من خلال التكنولوجيا، سواء من النظر من خلال المجهر أو تأمل صورة عن بلوتو، ولكن في حالة المجهر، فقد استطاع (هاكينج) حل المشكلة، وذلك عن طريق التدخل المادي، فمن خلال التدخل المادي في الشيء الذي ندرسه سنتمكن من معرفة ما إذا كان ذلك الشيء يستجيب بشكل صحيح للطريقة التي نراه فيها في الصورة، فتبعاً له، العلماء قد توصلوا إلى قناعة تامة حول شكل الشيء الذي يبدو بأنهم يرونه من خلال المجهر لأنهم تمكنوا من التدخل به بطرق مادية تماماً، مثل استخدام الحقن الدقيقة، وقد أصبحنا أكثر قناعة الآن لأن جميع الأدوات التي تستخدم مبادئ فيزيائية مختلفة تماماً أعطتنا إلى حد كبير ذات الرؤية لذات شكل هياكل العينات.

ولكن في حين أن هذه النتائج يمكن أن تساعدنا على فهم الموضوع بشكل أفضل، إلّا أنها غير ممكنة التحقيق، أو يمكن القول على الأقل بأن التدخل المادي بالجرم السماوي الذي يقع في النهاية البعيدة للنظام الشمسي هو أمر غير عملي، وفي حالة بلوتو، إذا كانت البيانات التي جمعها مسبار نيو هوريزن متوافقة مع ما رأيناه في الصور، فإن هذا من شأنه أن يوفر للعلماء بعض الأدلة على أن الصور هي أكثر من جميلة.

ولكن هنا يطرح أمامنا سؤال آخر، هل من المهم حقاً أن نعرف ما نراه؟

99% من الأشخاص الذين يرون صور الفضاء لا يمتلكون أي فكرة عن ماهية تلك الأشياء، ولكنهم مع ذلك لا يهتمون بذلك، لأنها جميلة جداً وتعجبهم بكل الأحوال، كما أن البحث في الكون بالنسبة لمعظم الأشخاص ليس أمراً تقنياً وجافاً وعلمياً وحسب، فالفكرة تجاوزت بلوتو إلى حقيقة أننا وصلنا إلى هناك بالفعل، وحقيقة أننا قمنا ببناء شيء استطاع السفر في الفضاء عبر النظام الشمسي ليعود ويرسل لنا الصور، وذلك كله خلال 54 سنة منذ أن أصبح (يوري غاغارين) أول رجل يذهب إلى الفضاء، هو الشيء المدهش والذي يستحق حقاً أن نحتفل به.

شارك
نشر المقال:
فريق التحرير