طاقة نظيفة

الجفت.. وقود من بلاد الزعتر والزيتون

هذا الملف بالتعاون مع موقع ( متراس )

مع تزايد المشكلات البيئية الناجمة عن استنزاف الموارد الطبيعية يزداد البحث عن موارد مُتجددة للطاقة، فيكثر الحديث عن الوقود الحيوي الذي يتطلب انتاجه مصانع مُعقدة أحيانًا ورأس مال ضخم بالإضافة إلى أعمال الصيانة المستمرة. بالعودة إلى التراث وإلى فلسطين بشكل خاص نجد مصدرًا مميزًا من مصادر الطاقة لا يزال التفات المستثمرين إليه ضعيفًا، ونادرًا ما يتم التطرق إليه في كليّات الهندسة، بينما نجد الفلاح الفلسطيني يضعه على سلّم أولوياته ويحرص عليه بشدة، وكما يقول المثل:(حرصي على الجفت حرصي على الزيت).

في الماضي، ومع انتهاء عملية عصر الزيتون كان الفلاح يأخذ ما يتبقّ من مُخلفات العصر وهو ما يُسمى بالجفت، فيجففه على سطح المنزل ليستخدمه كفحم عضوي في فرن “الطابون”، مما يزيد حرارة الطابون، وبالإضافة إلى ذلك فإن استخدام الجفت في التدفئة في الشتاء من خلال وضعه في “الكانون” يُبقى النار مُشتعلة لفترة أطول. وحتى بعد استخدام الجفت كمصدر للوقود، فقد كان يستخدمه بعد تحوّله إلى رماد كسماد عضوي يُساعد على تحسين جودة التربة.

في السنوات الأخيرة لم يعد الجفت يُستغل كما يجب، لا كوقود ولا حتى كسماد بل كان يُشكل عبئًا بيئيًا بدلًا من أن يُعتبر كمصدر بديل، رخيص ومتجدد للطاقة ومتوفر محليًا بشكل كبير نظرًا لكثرة معاصر الزيتون في فلسطين حيث تصل كميّة زيت الزيتون في عام واحدة إلى 100 ألف طن أحيانًا، وبالتالي فإن كميّة المخلفات من الجفت والزيبار (مخلفات سائلة) ضخمة وتصل إلى حوالي 30 ألف طن تحتاج إلى معالجة، إن لم يتم الاستفادة منها و”اعادة تدويرها” كسماد أو كمصدر للطاقة.

تشير دراسات إلى أن الجفت يحتوي على كميّة طاقة مُرتفعة يُمكن أن تصل حتى 18 ميجا جول لكل كيلوجرام، وبالتالي يُمكن أن يُشكل بديلًا من البدائل الممتازة للفحم، وهي حقيقة تم اهمالها فترة طويلة وبدأ عدد من المستثمرين يُدركونها من جديد، مثل مشروع تحويل الجفت إلى فحم عضوي في بلدة “دير استيا” في الضفة الغربية حيث حقق المهندس الصناعي نجم أبو حجلة نتائج ممتازة في هذا الشأن، وبعد أن كانت البداية بإنتاج 50 طن من فحم الجفت، أصبح يُنتج 250 طن سنويا، ويتم تسويق المنتج بجميع مدن الضفة الغربية وابرز الأسواق مدن الخليل وبيت لحم ورام الله.

حتى في الجامعات الفلسطينية نجد اهتمامًا متزايدًا في مُخلفات عصر الزيتون كالجفت، وعلى سبيل المثال نشر الباحث طارق ابو حميد وآخرين ورقة علميّة في مجلة International Journal of Sustainable Energy لبحث إمكانيّة انتاج الطاقة من جفت الزيتون (olive cake) في المناطق الفلسطينية المُحتلة، حيث تشير الدراسة إلى أن كميّة مخلفات انتاج حوالي 100 ألف طن من زيت الزيتون في المناطق المحتلة عام 2010 وصلت إلى أكثر من 28 ألف طن، وهي كميّة قادرة على انتاج حوالي 1.3% من مُجمل الطاقة التي تم استهلاكها في عام 2009 في الضفة والقطاع، هذا يعني أن بإمكان الجفت أن يُنتج من الطاقة الكهربائية ما يكفي حاجة حوالي 60 ألف مواطن فلسطيني، أو حاجة مدينة مثل مدينة أريحا!

هذا المقال من ضمن سلسلة عُمران

الهندسة والاستحمار … عندما نفصل الفكر عن الهندسة

الجفت.. وقود من بلاد الزعتر والزيتون

كيف يُمكن لمشروع هندسي أن يُساهم في توحيد الأمّة؟ الخط الحديدي الحجازي نموذجًا!

كيف للعلم أن يُدمرنا؟ تأملات في الفِكر والهندسة!

من مكة إلى لاس فيغاس.. كيف غيّرت فنادق مكّة مفهومنا عن الحج؟

المقاومة بالطاقة الشمسية.. كيف يُمكن للشمس أن تتحول لوسيلة صمود؟

من موسيقى الماتورات إلى أوقاف التقنية والعلوم.. تأملات “سيد دسوقي” في الهندسة والقرآن!

دراسة أخرى نشرتها الجامعة الإسلاميّة في غزّة للباحث علاء مسلَّم وآخرين درسوا فيها الخصائص الحرارية لخليط وقودي يعتمد بنسبة كبيرة على مُخلفات عصر الزيتون بعنوان: ” Thermal Properties of Pomace Olives in a Composite Mixture” خلصوا فيها أنه بالإمكان الاستفادة من جفت الزيتون والزيبار معًا بإضافتهما إلى الديزل وإنتاج خليط وقودي جديد يتكون من (40% ديزل، 40% جفت، 20% زيبار) وهذا الخليط يحتوي على خصائص حرارية قريبة من الديزل النقي، وبالتالي يُمكن أن يكون بديًلا ممتازًا للديزل النقي.

المؤسف أن الكثير من نتائج هذه الدراسات تبقى حبيسة البحث الأكاديمي البحت ويتم اهمالها من قِبل المستثمرين ورجال الأعمال، بالإضافة إلى أن هذه الدراسات بحاجة إلى تطوير كي تستطيع أن تتحول إلى مُنتجات مُنافسة في الأسواق المحلية على الأقل، تمامًا كما حصل في صناعة الفحم العضوي من الجفت وهناك اليوم نجاحات تُذكر في هذا السياق.. فمن يدري، قد نرى في المستقبل بدائل للوقود التقليدي يتعمد انتاجها على المخلفات ويُباع بأسعار مُغرية.. “وقود زيتوني” من بلاد الزعتر والزيتون.