لقد مرّ تاريخ الاعلام الجماهيري بمراحل تطور التي شهدنا من خلالها ظهور وسائل اعلام جديدة والتي بدورها هدّدت استمرار وسائل اتصال واعلام أقدم منها. ولكن وسائل الاعلام التقليدية استطاعت دائما أن تسدّ الفراغات وأن تطوّر من نجاعة خدماتها بحيث تصمد في وجه موجات التجديد التي تهدد بقاءها. من الواضح لدى الجميع ان وسيلة الاعلام والاتصال الاكثر نجاعة وسرعة في هذا الزمن هي الإنترنت، وتكاد تكون الوسيلة الوحيدة التي انتشرت بوتيرة سريعة وغير مسبوقة في الغرب، اكثر من اي وسيلة اتصال اخرى على مرّ العصور.
إن السؤال الذي يشغل الكثيرين هذه الأيام ما اذا كانت وسائل الاعلام الجديد بسرعتها وسهولة التعامل معها وانظمتها التفاعلية ستكون سبباً في القضاء على عصر الصحف الورقية التقليدية أم لا. الإجابة على هذا السؤال هي اجابة قاطعة وحاسمة: نعم!
إن هذا الإدعاء مؤسس على عدّة اسباب نستطيع أن نلخصها سريعاً بالنقاط العشرين التالية:
اسباب داخلية:
- تكنولوجيا تناظرية(Analog) مقابل تكنولوجية رقمية: تعتمد الصحافة المكتوبة على التكنولوجيا التناظرية المغلقه (Analog). بحيث أن إنتاجها يعتمد على ماكنات طباعة، ورق بحجم ثابت ومحدّد، حبر، وسائل نقل لتوزيع الصحف على المحلّات. بالاضافة الى ذلك ان وتيرة الانتاج لا تتلائم بشكل كامل مع التطورات في الواقع. أي أن الأحداث أسرع من أن ترصدها صحيفة اسبوعية واحدة بشكل حصري ومباشر. بالمقابل، فإن الاعلام الجديد والصحافه الالكترونية ليس لها وزن، وهي قابلة للتحديث وللتعديل ومواكبة الاحداث بشكل فوري.
أسباب خارجية:
- عصر السرعة: بما ان السرعة في هذه الايام اصبحت عنصراً مهمّاً وحيوياً في حياتنا، وبما ان المجتمعات تتطور بوتيرة سريعة ايضا، بالتالي على وسائل الاعلام ان تفي بالغرض وتتلائم مع سرعة العصر. إن الصحافة المطبوعة لا تتلائم مع وتيرة الحياة ولا مع روح العصر، بالتالي قد تحاول أن تغيّر أهدافها كي تحافظ على بقائها وضرورتها في حياة الفرد، وذلك عن طريق: 1. ان تتحول من تقديم الاخبار الى تحليلها. 2. ان تتحول من مجرد وسيلة اعلام وايصال معلومات عمّا حصل في الزمن الماضي القريب إلى وسيلة التي تهدف على توقّع احداث مستقبلية بالاعتماد على التحليل والدراسة. ولكن في كل الحالات هذا لن يجدي نفعًا لأن الصحافة الالكترونية تستطيع ان تقدم نفس الخدمات بطرق اسهل واسرع.
- إندماج وسائل الاعلام المختلفة: في الماضي كانت كل وسيلة اعلام قائمة بحد ذاتها بشكل مستقل، أي بدون أن تتداخل خدماتها مع وسائل الاعلام الاخرى. بالمقابل، يوفر الحيّز الافتراضي مساحة لهذه الوسائل بحيث تقدم خدماتها على الشبكة. لذلك نستطيع اليوم ان نستهلك كل هذه الخدمات على الشبكة بشكل اسهل وانجع, وذلك يتلخص في: مشاهدة افلام كبديل للسينما، الاستماع لبث القنوات التلفزيونية في مواقع الانترنت، متابعة الاعلام المسموع.
- تفاعل الجمهور: إن الجمهور يشكّل عاملاً فعّالاً وحيوياً في اختيار واستهلاك وسائل الاعلام المختلفة. بالتالي فإن الحد الفاصل بين منتج المادة الاعلامية وبين المستخدم بات غير واضح وغير حاسم, واصبحت العلاقة بينهما ذات اتجاهين. إن ظاهرة انتقال الجمهور من مجرد مستقبل للمادة الى منتج لها بدأت منذ انتشار كاميرات الفيديو، المدوّنات، البودكاست. بالمقابل، العلاقة بين منتج المادة الاعلامية في الصحافة المكتوبة كانت دائما وستظل ذات اتجاه واحد، علاقة ذات نظام طبقي فيما يتعلق بتحديد المادة المنتَجة.
- تغيير موازين القوى ومفهوم السلطة: لم تعد الصحافة المكتوبة تملك نفس الرهبة كما كانت من قبل. هذه الرهبة كانت تبرز في لهجة سلطة الصحافة المكتوبة بحيث أنها كانت تعتبر نفسها تملك كل المعلومات وليس هناك حق لأحد لأن يراهن على صدقها. يمكننا ان نرى ذلك في شعار صحيفة نيو يورك تايمز “ALL THE NEWS THAT IS FIT TO PRINT”. التغيير في نظرة الجمهور المتلقي لهذه الوسيلة ينبع من ارادتهم للمشاركة في انتاج المادة الاعلامية, ورفضهم لأن تبقى العلاقة ذات اتجاه واحد. بالمقابل, صحافة الانترنت تتيح للجمهور المشاركة في صنع وتقييم المادة.
- اسلوب الحياة ومشكلة الحقبة الزمنية المعاصرة: ان الفرد في المجتمع المعاصر قد دخل في صراع مع الوقت, واصبح تحدّياً أن يستطيع القيام بكل المهام في وقت ضيّق: التزامات العمل, العائلة, الفعاليات المختلفة…الخ. في الماضي كان لدى الفرد وقت في الصباح لقراءة الصحيفة بتمعّن.بالمقابل, وتيرة الحياة في الزمن الحاضر سريعة, ولا يملك الفرد الوقت الكافي للقيام بكل ما يفترض ان يقوم به الانسان. لذلك فأنه من الصعب على الصحافة المطبوعة ان تحافظ على جمهورها كلّه, بما انه قراءتها تحتاج الى تركيز ووقت اكثر.
- الهجرة والعولمة: ان التنقل السريع والسهل نسبيا بين الدول والقارات, وتزايد اعداد المقيمين خارج أوطانهم, تتطلب وسيلة اعلام سهلة التوافر وبثمن معقول, الذي يوفر للمهاجرين الاطلاع على اخبار اوطانهم. الصحافة المطبوعة غالبا ما تكون محليّة الانتاج والتوزيع, بينما الصحافة الالكترونية متوفرة في كل انحاء العالم مجانا على الشبكة.
- الانترنت كمحور حياة: ليس هناك أي سبب لأن يستمر الناس في قراءة الصحيفة المكتوبة في حضور الصحافة الالكترونية. لأن الثانية تعتبر مجانيّة, وهي جزء لا يتجزأ من كل عالم الانترنت الذي يقدم تقريبا كل الخدمات اللازمة من شتى مناحي الحياة, مثل: العاب ترفيهيه, سياسة, مواقع شركات المواصلات كالقطارات والمطارات, خدمات عامة مثل البنوك, الجامعات والوزارات.
- جودة البيئة: بكل بساطة, صناعة الورق لأنتاج الصحافة المطبوعة يساهم في تلويث البيئة, من قطع اشجار, حبر, استهلاك كهرباء. بينما الصحافة الالكترونية فهي صديقة للبيئة.
- عصر ما بعد الحداثه, ونهاية عصر سيطرة النص: (عامل ملخّص) إن العصر الحالي يتبنى مفاهيم حياة “ما بعد الحداثه”, التي تؤمن بمبدأ التشكيك وأن ليس هناك حقيقة موضوعية ومطلقة, بالاضافه الى ايمانها بأهمية نظرة الانسان الشخصية, الغير موضوعية للأشياء. إن هذ التوجه لا يؤمن بوجود محور يرتب الآراء والقناعات من الخطأ الى الصواب. على عكس ذلك, توجّه “الحداثه” اعتبر ان هناك فعلا حقيقة واحدة موضوعية مطلقة التي يمكننا كشفها. وهذا العصر يتلائم مع توجّه الصحافة المطبوعة, على عكس عصر “ما بعد الحداثه”. إن الاعلام في هذا العصر مؤسس على تقديم محتوى سريع, متغيّر ومتعدد الثقافات ووجهات النظر.
- رصد ردود الافعال: تمكّن الصحافة الالكترونية المحرّين معرفة ما يفضله الجمهور, سواء عن طريق تقديم الملاحظات بشكل فعّال: تعليقات نصيّه في كل مقال اوخبر. او بطريقة غير فعالة وغير نصيّة, مثلا: احصاء عدد القرّاء لكل مقال, والمدة الزمنية الي قضاها في صفحة معينه.
- توسيع مصادر المعلومات: ان نظام الانترنت الذي يتيح للمستخدم المشاركة والتعليق على المحتوى مفيد لعدة اسباب: يمكن للمستخدم ابداء رأيه سواء بالدعم او بالمعارضة. الاشارة الى لقضايا تهم الجمهور ولم يتم تناولها حتى الان. تصحيح اخطاء او تدقيق معلومات في المقال او اضافة معلومات تثري المحتوى الموجود. من الجدير بالذكر ان نظام مراقبة جودة المحتوى ضعيف في الصحافة المكتوبة, وهو متوفر بشكل فوري في الصحافة الالكترونية.
- مساحة واسعة: من المعروف ان مساحة الصحيفة المطبوعة ثابت ومحدود, وهناك صعوبة في العثور على المقالات والمواضيع التي تهمّنا, هذا يتطلب من القارئ وقت وجهد لقراءة كل العناوين. بالمقابل, الصحيفة الالكترونية توفر خدمة محرّك البحث الذي يتيح للقارئ البحث سريعاً على موضوع معيّن, بالاضافه الى ان هناك سهولة في الإطّلاع على أرشيف الصحيفة, على عكس الصحافة المطبوعة. أضف الى ذلك أن الصحيفة المطبوعة تقدم النص مع الصورة, بينما الالكترونية تقدم ايضا مقاطع فيديو ومقاطع صوتية بالاضافة الى النص والصور.
- التخصيص: الصحيفة الالكترونية تقدم ذلك بطرق مختلفة: اولا, امكانية اختيار مواضيع محدّدة والحصول على كل ما يتعلق بها من كل الصحف الالكترونية. أو اختيار صحيفة الكترونية معينة والحصول على قائمة بالعناوين المفضّلة برسالة الى البريد الالكتروني.
- سرعة ووتيرة الإصدار: ان الصحيفة المطبوعة تصدر مرة في اليوم على الاكثر, بينما الالكترونية يتم تحديثها فيما يتلائم مع مجريات الاحداث في العالم بدون توقف. من المهم التنويه الى انه في هذه الايام بالذات أصبح الوصول الى الصحيفة الالكترونية اكثر سهولة, بعد أن توفرت هذه الخدمات في الهواتف النقاله.
- طريقة التسديد: الصحيفة المطبوعة: السعر ثابت واجمالي لكل الصحيفة, لا يستطيع القارئ أن يدفع ثمن ما يقرأ فقط. بينما الصحافة الالكترونية من الممكن ان تعرض أقساماً معينة بتكلفة مادية وأقسام أخرى مجاناً.
- تكاليف منخفضة: ان انتاج صحيفة مطبوعة مكلف اكثر بكثير من انتاج صحيفة الكترونية. صحيح ان هناك تكاليف يجب تسديدها وهي غير موجودة في عملية انتاج الصحيفة المطبوعة, ولكّنها على حل حال, تكاليف زهيدة جدا, مثلا, الدفع لادارة المواقع او لشركة الاتصالات.
- وسائل اعلام الكترونية جديدة: ان الثورة الرقمية تعطي الحياة ايضا لوسائل اعلام تقليدية مثل التلفزيون والراديو, بحيث ان هناك امكانية لبث قنوات تلفزيونية او اذاعية عبر الانترنت. بينما الصحافة المطبوعة ليس بإمكانها ان توفر امكانيات تخدم غيرها من وسائل الاعلام.
- الصحيفة السريعة: هو نوع من الصحف الالكترونية التي يستطيع المستخدم قراءتها بمدة زمنية لا تزيد عن عشرين دقيقة. صحيفة تقدم الاخبار بشكل مختصر جدا, وتكون مليئة بالألوان والصور, ودون تحيّز أيديولوجي. ان أرباح هذه الصحف تعتمد في الأساس على الاعلانات. من هنا, فإن القارئ بمجرد استهلاكه لهذا النوع من الصحف فهو يتعرض للإعلانات التي تحتويها, وبذلك يزيد أحتمال ان يستهلك احد المنتجات المعلن عنها, وهذا يدعم الصحيفة بشكل غير مباشر.
- الاعلانات: تعتبر الاعلانات هي الأساس القوي الذي تعتمد عليه الصحيفة المطبوعة في مدخولاتها وأرباحها, ولا وجود للصحيفة بمعزل عنها. إن خطر انقراض الصحف المطبوع, في هذه النقطة, لا ينبع فقط من الصحيفة الالكترونية, إنما من الانترنت ككل. لأن الانترنت يوفر خدمات أكثر للجهة المعلِنة بحيث ان صاحب الاعلان يستطيع أن يعرف مدى نجاح الاعلان. ويستطيع ايضا ان يلائم الاعلانات لمجالات إهتمام المستهلكين الذين يستخدمون الشبكة. بالاضافه الى ان هناك مواقع كاملة هدفها الاعلان والتسويق, أي أن اعلانات الصحف المطبوعة لم تعد ضرورية.
إن هذه الاسباب جميعا تشكّل ضربة قاضية في عنق الصحافة المطبوعة, وبالذات أنها تضرب في الصميم مصادر ربحها, ألا وهي الاعلانات.
بالاعتماد على مقال لبروفيسور لايمان فيلتسيج.