اكتشف علماء الأعصاب التنموية في جامعة شيكاغو وجود علامات محددة في الدماغ يمكن أن تتنبأ بمدى توافر صفة الكرم لدى الأطفال، حيث يبدو أن تلك العلامات العصبية ترتبط بعمليات تقييمية اجتماعية وأخلاقية، فعلى الرغم من وجود العديد من أنواع السلوكيات الاجتماعية الإيجابية التي يمكن دراستها، إلّا أنه تم تفضيل دراسة سلوكيات الأطفال الصغار كون سلوكهم يعتبر طبيعياً (غير متصنع)، علماً أن ميول الأطفال تجاه تقاسم الموارد، هي بالأغلب ميول أنانية.
قام كل من (جان ديسيتي)، وهو أستاذ في علم النفس والطب النفسي في (ايرفينغ ب. هاريس)، و(جايسون كويل)، وهو باحث ما بعد الدكتوراه في مختبر (ديسيتي) في جناح الأعصاب الخاص بالطفل، بإجراء بحث لمعرفة كيف تُقيِّم أدمغة الأطفال الصغار عملية مشاركة الأشياء مع الآخرين بدافع الكرم، حيث قام الباحثون باستخدام صفة الكرم في هذه الدراسة كمؤشر للسلوك الأخلاقي، وسيتم نشر هذا البحث بالنسخة الإلكترونية من مجلة (Current Biology)، وسوف يظهر في إصدار 5 كانون الثاني من عام 2015.
تبعاً للأستاذ (ديسيتي)، فإنه من المعروف أن صفة الكرم لدى الأطفال تزداد مع تقدمهم في السن، ولكن لم يقم علماء الأعصاب حتى الآن بدراسة الآلية الدماغية التي تعمل على توجيه هذه الصفة، وإن نتائج هذه الدراسة تشير إلى أن الأطفال يظهرون أنماطاً من الاستجابات العصبية، عند مشاهدتهم لسيناريوهات تبين سلوكيات مختلفة مثل تقديم المساعدة أو إلحاق الضرر بالآخرين، وإن استجابة الأطفال تكون بالبدء تلقائية (غريزية) ومن ثم تتحول إلى إدراكية (يتم إدراكها)، وإن الاستجابات العصبية الإدراكية هي التي تتنبأ بصفة الكرم لدى الأطفال.
قام الباحثون بهذه الدراسة، بتسجيل الموجات الدماغية لـ 57 طفلاً، تتراوح أعمارهم بين 3-5 أعوام، وذلك باستخدام جهاز التخطيط الدماغي (EEG) وتتبع حركة العين، وتم تسجيل هذه البيانات أثناء مشاهدة الأطفال لمشاهد قصيرة من الرسوم المتحركة التي تصوّر الشخصيات الكرتونية وهي تقوم بسلوكيات اجتماعية إيجابية أو معادية للمجتمع، حيث تتمثل هذه السلوكيات إما بمساعدة الشخصيات لبعضها البعض أو إيذائها لبعضها البعض، وبعد ذلك، طلب الباحثون من الأطفال بأن يقوموا بلعب نسخة معدلة من لعبة تسمى “لعبة الدكتاتور”، تم فيها إعطاء الأطفال عشر ملصقات، وقيل لهم بأن هذه الملصقات هي ملكهم وأن بإمكانهم الاحتفاظ بها، ومن ثم طلبوا منهم – إذا أرادوا- مشاركة بعض الملصقات التي قاموا بإعطائها لهم مع “طفل مجهول” سيأتي إلى المختبر في وقت لاحق من ذلك اليوم، وذلك بوضع الملصقات التي يريدون الاحتفاظ بها في صندوق، ووضع الملصقات التي يريدون مشاركتها مع “الطفل المجهول” في صندوق آخر.
وخوفاً من تأثير المراقبين على الأطفال، ابتعد المراقب عن الأطفال عند لحظة اتخاذ القرار بالمشاركة من عدمها، وبالنتيجة، كان متوسط مشاركة الأطفال للملصقات مع “الطفل المجهول” أقل ملصقين (أي ما يعادل 1.78 من أصل 10) ، وإن سلوك الأطفال لم يتأثر بشكل كبير بتغيّر الجنس أو السن، كما وقد وجد الباحثون أيضاً أن طبيعة الرسوم المتحركة التي تم عرضها على الأطفال في بداية التجربة، كان لها تأثير على تصرف الأطفال بطريقة سخية، فالأطفال الذين شاهدوا أفعال المساعدة كانوا أكثر ميلاً تجاه مشاركة بطاقاتهم مع “الطفل المجهول”.
تبعاً لـ (ديسيتي)، فقد بينت الدراسة كيفية معالجة أدمغة الأطفال الصغار للحالات الأخلاقية التي تم عرضها عليهم في المشاهد الكرتونية، وكيف أن هذه المشاهد ترتبط مباشرة مع السلوك الاجتماعي الإيجابي الفعلي الذي يتمثل بفعل الكرم من خلال تقاسم الملصقات، كما أن نتائج هذه الدراسة تسلّط الضوء على نظرية التطوّر الأخلاقي، وذلك من خلال توثيق مساهمة الاستجابات العصبية التلقائية والإدراكية بالسلوك الأخلاقي لدى الأطفال، وكذلك وجد علماء الأعصاب التنموية، من خلال قراءتهم لنتائج التخطيط الدماغي، أدلة تشير إلى أن الأطفال تكون استجابتهم العصبية للمحفزات الأخلاقية تلقائية (غريزية) في البداية، وبعد ذلك يعمل الأطفال على إعادة تقييم هذه المحفزات الأخلاقية بحيث يعالجونها ويدركونها بشكل أفضل، ومن ثم يتم بناء التقييمات الأخلاقية الضمنية، والتي تتحول فيما بعد إلى سلوكيات أخلاقية فعلية.
إن هذه الدراسة العصبية التنموية هي الأولى من نوعها في مجال الحس الأخلاقي، والتي تربط ما بين التقييمات الأخلاقية الضمنية والسلوكيات الأخلاقية الفعلية، حيث تعمل هذه الدراسة على تحديد العلامات العصبية المحددة للتقييمات الضمنية والإنعكاسات الفعلية، كما ويضيف (ديسيتي)، أن هذه النتائج تقدم فكرة مثيرة للاهتمام تتمثل بأن تشجيع الأطفال للتفكير ملياً في السلوك الأخلاقي للآخرين، قد يكون قادراً على تعزيز فكرة التقاسم والكرم في نفوسهم، كما أن هذه النتائج تظهر – على عكس العديد من النظريات الأخلاقية السائدة- أن ردود الفعل التلقائية (الغريزية) تجاه سلوك الآخرين موجودة، إلّا أن هذه الردود التلقائية لا تظهر بشكل مباشر بالسلوك الأخلاقي الفعلي للشخص، كون السلوك الفعلي يتضمن إجراء تقييم أخلاقي ضمني يتم فيه إدراك المحفز، كما هو الأمر مع مدى سخاء الأطفال بمشاركة ملصقاتهم.
حالياً يعمل (ديسيتي) و(كويل) على إجراء تجارب مماثلة على أطفال أصغر سناً، تتراوح أعمارهم بين 12 إلى 24 شهر، وذلك لمعرفة الفترة التي تظهر فيها العلامات العصبية التي تتعلق بالكرم.